ويلتفت السياق من خطابهم إلى خطاب عام ، كأنما يعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون :
( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات ? أتتهم رسلهم بالبينات ، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين ، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون . . هؤلاء ( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم )ممن ساروا في نفس الطريق ? ( قوم نوح )وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب( وعاد ) وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية( وثمود )وقد أخذتهم الصيحة ( وقوم إبراهيم )وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم ( وأصحاب مدين )وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة( والمؤتفكات ) قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين . . ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين ( أتتهم رسلهم بالبينات )فكذبوا بها ، فأخذهم الله بذنوبهم :
( فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )?
إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر ، وتعميها النعمة فلا تنظر . وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف ، ولا تتوقف ، ولا تحابي أحداً من الناس . وإن كثيراً ممن يبتليهم اللّه بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة ، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم ، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين . عندئذ تحق عليهم كلمة اللّه ، وعندئذ تجري فيهم سنة اللّه ، وعندئذ يأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر . وهم في نعمائهم يتقلبون ، وبقوتهم يتخايلون . واللّه من ورائهم محيط
إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء ، نراها في كل زمان وفي كل مكان . إلا من رحم اللّه من عباده المخلصين .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يسرّون الكفر بالله ، وينهون عن الإيمان به وبرسوله نَبأُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول : خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلنا ، وخالفوا أمرنا ماذا حلّ بهم من عقوبتنا ؟ ثم بين جلّ ثناؤه من أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نبؤهم ، فقال : قَوْمُ نُوحٍ ولذلك خفض «القوم » لأنه ترجم بهن عن «الذين » ، و«الذين » في موضع خفض .
ومعنى الكلام : ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر قوم نوح وصنيعي بهم ، إذ كذّبوا رسولي نوحا وخالفوا أمري ، ألم أغرقهم بالطوفان ؟ وعادٍ يقول : وخبر عاد إذ عصوا رسولي هودا ، ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية ؟ وخبر ثمود إذ عصوا رسولي صالحا ، ألم أهلكهم بالرجفة ، فأتركهم بأفنيتهم خمودا ؟ وخبر قوم إبراهيم إذ عصوه ، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من الحقّ ، ألم أسلبهم النعمة وأهلك ملكهم نمروذ ؟ وخبر أصحاب مدين بن إبراهيم ، ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة ، إذ كذّبوا رسولي شعيبا ؟ وخبر المنقلبة بهم أرضهم ، فصار أعلاها أسفلها ، إذ عصوا رسولي لوطا وكذّبوا ما جاءهم به من عندي من الحقّ . يقول تعالى ذكره : أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزءون بالله وبآياته ورسوله ، أن يسلك بهم في الانتقام منهم وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا سبيل أسلافهم من الأمم ، ويحلّ بهم بتكذيبهم رسولي محمدا صلى الله عليه وسلم ما حلّ بهم في تكذيبهم رسلنا ، إذ أتتهم بالبينات .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَالمُؤْتَفِكاتِ قال : قوم لوط انقلبت بهم أرضهم ، فجعل عاليها سافلها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالمُؤْتَفِكاتِ قال : هم قوم لوط .
فإن قال قائل : فإن كان عني بالمؤتفكات قوم لوط ، فكيف قيل : المؤتفكات ، فجمعت ولم توحد ؟ قيل : إنها كانت قريات ثلاثا ، فجمعت لذلك ، ولذلك جمعت بالتاء على قول الله : والمؤتفِكةَ أهْوَى .
فإن قال : وكيف قيل : أتتهم رسلهم بالبينات ، وإنما كان المرسل إليهم واحدا ؟ قيل : معنى ذلك : أتى كل قرية من المؤتفكات رسول يدعوهم إلى الله ، فتكون رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إليهم للدعاء إلى الله عن رسالته رسلاً إليهم ، كما قالت العرب لقوم نسبوا إلى أبي فديك الخارجي الفديكات وأبو فديك واحد ، ولكن أصحابه لما نسبوا إليه وهو رئيسهم دعوا بذلك ونسبوا إلى رئيسهم فكذلك قوله : أتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّناتِ . وقد يحتمل أن يقال : معنى ذلك : أتت قوم نوح وعاد وثمود وسائر الأمم الذين ذكرهم الله في هذه الآية رسلهم من الله بالبينات .
وقوله : فَمَا كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يقول جلّ ثناؤه : فما أهلك الله هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها واستحقاقها من الله عظيم العقاب ، لا ظلما من الله لهم ولا وضعا منه جلّ ثناؤه عقوبة في غير من هو لها أهل لأن الله حكيم ، لا خلل في تدبيره ولا خطأ في تقديره ، ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله وتكذيبهم رسله حتى أسخطوا عليهم ربهم فحق عليهم كلمة العذاب فعذّبوا .
يقول عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت الله بتكذيب رسله فأهلكها ، { وعاد وثمود } قبيلتان ، { وقوم إبراهيم } نمرود وأصحابه وتباع دولته ، { وأصحاب مدين } قوم شعيب ، { والمؤتفكات } أهل القرى الأربعة ، وقيل السبعة الذين بعث إليهم لوط صلى الله عليه وسلم ، ومعنى { المؤتفكات } المنصرفات والمنقلبات أفكت فانتفكت لأنها جعل أعاليها أسفلها ، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع ، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان : [ البسيط ]
بمنطق مستبينٍ غيرِ مُلْتَبِسٍ*** به اللسانُ وإني غيرُ مؤتفكِ
أي غير منقلب منصرف مضطرب ومنه يقال للريح مؤتفكة لتصرفها ، ومنه { أنى يؤفكون }{[5777]} والإفك : صرف القول من الحق إلى الكذب ، والضمير في قوله { أتتهم رسلهم } عائد على هذه الأمم المذكورة ، وقيل على { المؤتفكات } خاصة ، وجعل لهم رسلاً وإنما كان نبيهم واحداً لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً ، فهم رسل رسول الله ذكره الطبري ، والتأويل الأول في عود الضمير على جميع الأمم أبين وقوله { بالبينات } يريد بالمعجزات وهي بينة في أنفسها بالإضافة إلى الحق لا بالإضافة إلى المكذبين بها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.