فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَلَمۡ يَأۡتِهِمۡ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَقَوۡمِ إِبۡرَٰهِيمَ وَأَصۡحَٰبِ مَدۡيَنَ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَٰتِۚ أَتَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (70)

{ ألم يأتهم } أي المنافقين ، رجوع إلى الغيبة عن الخطاب ففيه التفات وهو استفهام بمعنى التقرير والتحذير ، أي قد أتاهم { نبأ الذين من قبلهم } أي خبرهم الذي له شأن ، وهو ما فعلوه من التكذيب وما فعل بهم من الإهلاك ، ولما شبه حالهم بحالهم فيما سلف على الإجمال في المشبه بهم ، ذكر منهم ههنا ست طوائف قد سمع العرب أخبارهم لأن آثارهم باقية ، وبلادهم بالشام والعراق واليمن ، وكل ذلك قريب من أرض العرب ، فكانوا يمرون عليهم ويعرفون أخبارهم .

{ قوم نوح } وقد هلكوا بالإغراق وأهلكوا بالطوفان وهم أولهم { و } ثانيهم قوم { عاد } وقد أهلكوا بالريح العقيم { و } ثالثهم قوم { ثمود } وقد أخذوا بالصيحة وأهلكوا بالرجفة { وقوم إبراهيم } وقد سلط الله عليهم البعوض وقيل أهلكوا بسلب النعمة عنهم وهم رابعهم { وأصحاب مدين } وهم قوم شعيب وقد أخذتهم الرجفة وأهلكوا بعذاب يوم الظلة وهي غمامة أطبقت عليهم وهم خامسهم { و } سادسهم أصحاب { المؤتفكات } وهي قرى قوم لوط وقد أهلكهم الله بما أمطر عليهم من الحجارة ، فإن كانت مرادة به فهي على حقيقتها وإن كان المراد مطلق قرى المكذبين وهي لم تخسف بأجمعها فيكون المراد به مجازا انقلاب حالها من الخير إلى الشر تشبيها له بالخسف على طريق الاستعارة كقول ابن الرومي :

وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة أعاليها بل أن تسود الأراذل

وهي بدل من الذين بدل بعض من كل ، فقوله : وعاد إلى آخر المعطوفات كلها على قوم نوح لا على نوح غير أن الأخير وهو المؤتفكات على حذف مضاف كما قدرنا إذ هي القرى ، وليست من الذين خلوا حتى تكون من جملة البدل ، وسميت مؤتفكات لأنها انقلبت بهم حتى صار عاليها سافلها ، والائتفاك الانقلاب يقال أفكه إذا قلبه وبابه ضرب ، ويقال أفكته فائتفك أي قلبته فانقلب ، والمادة تدل على التحول والصرف ، ومنه { يؤفك عنه من أفك } أي يصرف .

{ آتتهم } استئناف لبيان نبأهم { رسلهم } أي رسل هذه الطوائف الست ، وقيل رسل أصحاب المؤتفكات لأن رسولهم لوط وقد بعث إلى كل قرية من قراهم رسولا { بالبينات } أي المعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا ، فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، والفاء في { فما كان الله ليظلمهم } للعطف على مقدر يدل عليه الكلام ، أي فكذبوهم فأهلكهم الله فما ظلمهم بذلك ولم يعجل العقوبة لهم ، لأنه قد بعث إليهم رسله فأنذروهم وحذروهم .

{ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بسبب ما فعلوه من الكفر بالله وعدم الانقياد لأنبيائه ، وهذا التركيب يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان مستمرا .

وقيل تقديم المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم .