وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريما باتا - مع التفظيع والتبشيع - أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء . وقد كان ذلك في الجاهلية حلالا . وكان سببا من أسباب عضل النساء أحيانا ، حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه ، أو إن كان كبيرا تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء ! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم :
( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .
ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات - وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع ، ولا يتوقف خضوعنا له ، وتسليمنا به ، ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة ، فحسبنا أن الله قد شرعه ، لنستيقن أن وراءه حكمة ، وأن فيه المصلحة .
نقول : يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات : الأول أن امرأة الأب في مكان الأم . والثاني : ألا يخلف الابن أباه ؛ فيصبح في خياله ندا له . وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا ، فيكره أباه ويمقته ! والثالث : ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب . الأمر الذي كان سائدا في الجاهلية . وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء . وهما من نفس واحد ، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء .
لهذه الاعتبارات الظاهرة - ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا - جعل هذا العمل شنيعا غاية الشناعة . . جعله فاحشة . وجعله مقتا : أي بغضا وكراهية . وجعله سبيلا سيئا . . إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية ، قبل أن يرد في الإسلام تحريمه . فهو معفو عنه . متروك أمره لله سبحانه . .
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } .
قد ذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم كانوا يخلفون على حلائل آبائهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فحرّم الله تبارك وتعالى عليهم المقام عليهن ، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشركهم من فعل ذلك لم يؤاخذهم به إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه . ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا قراد ، قال : حدثنا ابن عيينة وعمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، قال : فأنزل الله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } { وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله ، إلا أن الرجل كان يخلف على حليلة أبيه ، ويجمعون بين الأختين ، فمن ثم قال الله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد بنت ضمرة ، كانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خلف ، وكان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خلف ، وفي فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية ، وفي منظور بن رباب ، وكان خلف على مليكة ابنة خارجة ، وكانت عند أبيه رباب بن سيار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء بن أبي رباح : الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها حتى يطلقها ، أتحلّ لابنه ؟ قال : هي مرسلة ، قال الله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } قال : قلت لعطاء : ما قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } ؟ قال : كان الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، يقول : كل امرأة تزوّجها أبوك وابنك دخل أو لم يدخل فهي عليك حرام .
واختلف في معنى قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } فقال بعضهم : معناه : لكن ما قد سلف فدعوه ، وقالوا هو من الاستثناء المنقطع .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا نكاح آبائكم ، بمعنى : ولا تنكحوا كنكاحهم كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الإسلام ، { إنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتا وَسَاءَ سَبِيلاً } يعني : أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً ، إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفوّ لكم عنه .
وقالوا : قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } كقول القائل للرجل : لا تفعل ما فعلت ، ولا تأكل ما أكلت بمعنى : ولا تأكل كما أكلت ، ولا تفعل كما فعلت .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم ، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم ، فإن نكاحهنّ لكم حلال كان لأنهنّ لم يكنّ لهم حلائل ، وإنما ما كان من آبائكم منهنّ من ذلك فاحشة ومقتا وساء سبيلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف } . . . . الاَية ، قال : الزنا ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً . فزاد ههنا المقت .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله ، أن يكون معناه : ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم ، فمضى في الجاهلية ، فإنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً ، فيكون قوله : { مِنَ النّساءِ } من صلة قوله : { وَلا تَنْكِحُوا } ويكون قوله : { ما نَكَحَ آباؤكُمْ } بمعنى المصدر ، ويكون قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } بمعنى الاستثناء المنقطع ، لأنه يحسن في موضعه : لكن ما قد سلف فمضى ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً .
فإن قال قائل : وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويل ، وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم في ذلك ، إنما قالوا : أنزلت هذه الاَية في النهي عن نكاح حلائل الاَباء ، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم ؟ قيل له : وإن قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل ، إذ كانت ما في كلام العرب لغير بني آدم ، وإنه لو كان المقصود بذلك النهي عن حلائل الاَباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما ، ابتدىء مثله في الإسلام ، بنهي الله جلّ ثناؤه عنه ، لقيل : ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، إذ كان «من » لبني آدم و«ما » لغيرهم ، ولا تقل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ، فإنه يدخل في «ما » ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم ، فحرم عليهم في الإسلام بهذه الاَية نكاح حلائل الاَباء ، وكل نكاح سواه ، نهى الله تعالى ذكره ابتداء مثله في الإسلام ، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم .
ومعنى قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } : إلا ما قد مضى ، { إنّهُ كان فاحِشَةً } يقول : إن نكاحكم الذي سلف منكم ، كنكاح آبائكم المحرّم عليكم ابتداء مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم فاحشة ، يقول : معصية { وَمَقْتا وَساءَ سَبِيلاً } : أي بئس طريقا ومنهجا ما كنتم تفعلون في جاهليتكم من المناكح التي كنتم تتناكحونها .
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم ، وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة ، وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر . { من النساء } بيان ما نكح على الوجهين . { إلا ما قد سلف } استثناء من المعنى اللازم للنهي وكأنه قيل : وتستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ، أو من اللفظ للمبالغة في التحريم والتعميم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى ولا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوهن . وقيل الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف ، فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر . { إنه كان فاحشة ومقتا } علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم ، ممقوتا عند ذوي المروءات ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي { وساء سبيلا } سبيل من يراه ويفعله .
هذه الآية مخاطبة للمؤمنين من العرب في مدة نزول الآية ومعنى الآية : والتحريم الذي بعدها مستقر على المؤمنين أجمع ، وسبب الآية : أن العرب كان منهم قبائل قد اعتادت أن يخلف الرجل على امرأة ابيه ، على ما ذكرناه من أمر أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس ، ومن ذلك خبر أبي قيس بن الأسلت ، ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف ، تزوج بعد أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت امرأة أبيه قتل عنها ، ومن ذلك منظور بن زيان ، خلف على مليكة بنت خارجة ، وكانت عند أبيه زيان بن سيار ، إلى كثير من هذا ، وقد كان في العرب من تزوج ابنته ، وهو حاجب بن زرارة ، تمجس وفعل هذه الفعلة ، ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب : فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السير ، وقال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فنزلت هذه الآية في ذلك واختلف المتأولون في مقتضى ألفاظ الآية ، فقالت فرقة : قوله : { ما نكح } يراد به النساء . أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكح آباؤكم ، وقوله : { إلا ما قد سلف } معناه : لكن ما قد سلف فدعوه ، وقال بعضهم المعنى لكن ما قد سلف فهو معفو عنكم لمن كان واقعه ، فكأنه قال تعالى ولا تفعلوا حاشا ما قد سلف ، ف { ما } على هذا القول واقعة على من يعقل من حيث هؤلاء النساء صنف من أصناف من يعقل ، وما تقع للأصناف والأوصاف ممن يعقل ، وقالت فرقة : قوله : { ما نكح } يراد به فعل الآباء ، أي لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة ، وقوله : { إلا ما قد سلف } معناه إلا ما تقدم منكم ووقع من تلك العقود الفاسدة فمباحة لكم الإقامة عليه في الإسلام ، إذا كان مما يقرر الإسلام عليه من جهة القرابة ، ويجوزه الشرع أن لو ابتدىء نكاحه في الإسلام على سنته ، وقيل : معنى { إلا ما قد سلف } أي فهو معفو عنكم .
قال القاضي أبو محمد : و { ما } على هذا مصدرية ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «إلا ما قد سلف إلا من تاب » .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك حكاه أبو عمرو الداني ، وقال ابن زيد : معنى الآية : النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء ، «إلا ما قد سلف » من الآباء في الجاهلية من الزنا ، لا على وجه المناكحة ، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام ، لأن ذلك الزنا كان فاحشة ومقتاً ، قال ابن زيد : فزاد في هذه الآية المقت ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية : كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل أو لم يدخل ، فهي عليك حرام و { كان } في هذه الآية : كل امرأة تزوجها أبوك أبو ابنك دخل أو لم وذلك خطأ يرد عليه وجود الخبر منصوباً ، والمقت : البغض والاحتقار بسبب رذيلة يفعلها الممقوت ، فسمى تعالى هذا النكاح { مقتاً } إذ هو ذا مقت يلحق فاعله ، وقال أبو عبيدة وغيره : كانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوج الوالد المقتي ، وقوله : { وساء سبيلاً } أي بئس الطريق والمنهج لمن يسلكه ، إذ عاقبته إلى عذاب الله .
عطف على جملة { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } [ النساء : 19 ] ، والمناسبة أنّ من جملة أحوال إرثهم النساء كرها ، أن يكون ابن الميّت أولى بزوجة أبيه ، إذا لم تكن أمَّهُ ، فنهوا عن هذه الصورة نهياً خاصّاً مغلّظاً ، وتُخلّص منه إلى إحصاء المحرّمات .
و { ما نَكح } بمعنى الذي نكح مراد به الجنس ، فلذلك حسن وقع { ما } عوض ( مَن ) لأنّ ( مَن ) تكثير في الموصول المعلوم ، على أنّ البيان بقوله : { من النساء } سوّى بين ( ما ومن ) فرجحت ( مَا ) لخفّتها ، والبيان أيضاً يعيّن أن تكون ( ما ) موصولة . وعدل عن أن يقال : لا تنكحوا نساء آبائكم ليدلّ بلفظ نكح على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة تزوّج ابنه إياها . وذكر { من النساء } بيان لكون ( ما ) موصولة .
والنهي يتعلّق بالمستقبل ، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل ، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهنّ إذا كان قد حصل قبل ورود النهي . والنكاح حقيقة في العقد شرعا بين الرجل والمرأة على المعاشرة والاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعاً ، وتقدّم أنّه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } في سورة البقرة ( 230 ) ، فحرام على الرجل أن يتزوَّج امرأةً عقَد أبوه عليها عقد نكاح صحيح ، ولو لم يدخل بها ، وأمّا إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظَ النكاح عليه بعضُ العلماء ، وزعموا أنَّ قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } أُطلِق فيه النكاح على الوطء لأنّها لا يُحلّها لمطلّقها ثلاثاً مجرّد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنّة للمقصود من قوله : { تنكح } وقد بيّنت ردّ ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } .
وأما الوَطْءُ الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية .
وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه . فالذي ذهب إليه مالك في « الموطأ » ، والشافعي : أنّ الزنى لا ينشر الحرمة ، وهذا الذي حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في « الرسالة » ، ويُروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، والليث . وقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون من أصحاب مالك : الزنى ينشر الحرمة . قال ابن الماجشون : مات مالك على هذا . وهو قول الأوزاعي والثوري . وقال ابن الموّاز : هُو مكروه ، ووقع في المدوّنة ( يفارقها ) فحمله الأكثر على الوجوب . وتأوّله بعضهم على الكراهة . وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصّاص في أحكامه ، والفخرُ في مفاتيح الغيب ، وهي طويلة .
و { ما قد سلف } هو ما سبق نزولَ هذه الآية أي إلاّ نكاحاً قد سلف فتعيّن أنّ هذا النكاح صار محرَّماً . ولذلك تعيّن أن يكون الاستثناء في قوله : { إلا ما قد سلف } مؤوَّلا إذ ما قد سلف كيف يستثنى من النهي عن فعله وهو قد حصل ، فتعيّن أنّ الاستثناء يرجع إلى ما يقتضيه النهي من الإثم ، أي لا إثم عليكم فيما قد سلف . ثم ينتقل النظر إلى أنّه هل يقرّر عليه فلا يفرّق بين الزوجين اللذين تزوّجا قبل نزول الآية ، وهذا لم يقل به إلاّ بعض المفسّرين فيما نقله الفخر ، ولم أقف على أثر يُثبت قضية معيّنة فرّق فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وزوج أبيه ممّا كان قبل نزول الآية ، ولا على تعيين قائل هذا القول ، ولعل الناس قد بادروا إلى فراق أزواج الآباء عند نزول هذه الآية .
وقد تزوّج قبل الإسلام كثير أزواجَ آبائهم : منهم عُمر بن أمية بن عبد شمس ، خلف على زوج أبيه أميّة كما تقدّم ، ومنهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، ومنهم منظور بن ريان بن سيار ، تزوّج امرأة أبيه مُلكية بنت خارجة ، ومنهم حصن بن أبي قيس ، تزوّج بعد أبي قيس زوجه ، ولم يُرْوَ أنّ أحداً من هؤلاء أسلم وقرّر على نكاح زوج أبيه .
وجوّزوا أن يكون الاستثناء من لازم النهي وهو العقوبة أي لا عقوبة على ما قد سلف . وعندي أنّ مثل هذا ظاهر للناس فلا يحتاج للاستثناء ، ومتى يظنّ أحد المؤاخذة عن أعمال كانت في الجاهلية قبل مجيء الدين ونزول النهي .
وقيل : هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه : أي إن كنتم فاعلين منه فانكحوا ما قد سلف من نساء الآباء البائدة ، كأنّه يوهم أنه يرخّص لهم بعضه ، فيجد السامع ما رخّص له متعذّراً فيتأكّد النهي كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غيرَ أَنّ سيُوفَهم *** بهنّ فُلول من قِراع الكتائب
وقولهم ( حتّى يؤوب القارظان ) و ( حتّى يشيب الغراب ) وهذا وجه بعيد في آيات التشريع .
والظاهر أنّ قوله : { إلا ما قد سلف } قصد منه بيان صحّة ما سلف من ذلك في عهد الجاهلية ، وتعذّرَ تداركه الآن ، لموت الزوجين ، من حيث إنّه يترتّب عليه . ثبوت أنساب ، وحقوق مهور ومواريث ، وأيضاً بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح ، وأنّ المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختياراً منهم ، وقد تأوّل سائر المفسّرين قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } بوجوه ترجع إلى التجوّز في معنى الاستثناء أو في معنى : { ما نكح } ، حَمَلَهم عليها أنّ نكاح زوج الأب لم يقرّره الإسلام بعد نزول الآية ، لأنّه قال : { إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } أي ومثل هذا لا يقرّر لأنّه فاسد بالذات .
والمقت اسم سَمَّتْ به العرب نكاح زوج الأب فقالوا نكاح المقت أي البغض ، وسمّوا فاعل ذلك الضيزن ، وسمَّوْا الابنَ من ذلك النكاح مَقيتا .