القول في تأويل قوله تعالى : { جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتّقِينَ } .
يعني تعالى ذكر بقوله : جَنّاتُ عَدْنٍ بساتين للمقام ، وقد بيّنا اختلاف أهل التأويل في معنى عدن فيما مضى بما أغنى عن إعادته . يَدْخُلُونَها يقول : يدخلون جنات عدن . وفي رفع «جناتٌ » أوجه ثلاث : أحدها : أن يكون مرفوعا على الابتداء ، والاَخر : بالعائد من الذكر في قوله : «يَدْخُلُونَها » ، والثالث : على أن يكون خبر النعم ، فيكون المعنى إذا جعلت خبر النعم : ولنعم دار المتقين جنات عدن ، ويكون «يَدْخُلُونَها » في موضع حال ، كما يقال : نعم الدار دار تسكنها أنت . وقد يجوز أن يكون إذا كان الكلام بهذا التأويل «يدخلونها » من صلة «جنات عدن » . وقوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ يقول : تجري من تحت أشجارها الأنهار . لَهُمْ فِيها ما يشاءُونَ يقول : للذين أحسنوا في هذه الدنيا في جنات عدن ما يشاءون مما تشتهي أنفسهم وتلذّ أعينهم . كَذلكَ يَجْزِي اللّهُ المُتّقِينَ يقول : كما يجزي الله هؤلاء الذين أحسنوا في هذه الدنيا بما وصف لكم أيها الناس أنه جزاهم به في الدنيا والاَخرة ، كذلك يجزي الذين اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه .
{ جنات عدن } يحتمل أن يرتفع على خبر ابتداء مضمر بتقدير هي جنات عدن ، ويحتمل أن يرتفع بقوله { ولنعم دار المتقين } [ النحل : 30 ] { جنات عدن } ويحتمل أن يكون التقدير ، لهم جنات عدن ، ويحتمل أن يكون { جنات } مبتدأ وخبره { يدخلونها } ، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن «جناتِ » بالنصب ، وهذا نحو قولهم زيد ضربته ، وقرأ جمهور الناس «يدخلونها » ، وقرأ إسماعيل عن نافع «يُدخَلونها » بضم الياء وفتح الخاء ، ولا يصح هذا عن نافع ، ورويت عن أبي جعفر وشيبة بن نصاح ، وقوله { تجري من تحتها الأنهار } في موضع الحال وباقي الآية بين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم بين لهم الدار، فقال سبحانه: {جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار}، يعني: الأنهار تجري تحت البساتين، {لهم فيها ما يشاءون}، يعني: في الجنان، {كذلك يجزي الله المتقين}..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكر بقوله:"جَنّاتُ عَدْنٍ" بساتين للمقام... "يَدْخُلُونَها "يقول: يدخلون جنات عدن...
"تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ" يقول: تجري من تحت أشجارها الأنهار.
"لَهُمْ فِيها ما يشاءُونَ" يقول: للذين أحسنوا في هذه الدنيا في جنات عدن ما يشاءون مما تشتهي أنفسهم وتلذّ أعينهم.
"كَذلكَ يَجْزِي اللّهُ المُتّقِينَ" يقول: كما يجزي الله هؤلاء الذين أحسنوا في هذه الدنيا بما وصف لكم أيها الناس أنه جزاهم به في الدنيا والآخرة، كذلك يجزي الذين اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...فإن قيل: أرأيت لو شاءوا أن يكون لهم درجات الأنبياء ومنازل الأبرار والصديقين أ يكون لهم ما شاءوا؟ قيل: لا يشاؤون هذا؛ لأن مثل هذا إنما يكون في الدنيا إما حسدا وإما تمنيا، فلا يكون في الجنة حسد؛ لأن الحسد هو أن يرى لأحد شيئا، ليس له، فيحسده، أو يتمنى مثله. فأهل الجنة يجدون جميع ما يتمنون، ويخطر ببالهم، فلا معنى لسؤالهم، ربهم ما لغيرهم، والله أعلم.
{جنات} يدل على القصور والبساتين وقوله: {عدن} يدل على الدوام.
{تجري من تحتها الأنهار} يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم، ثم إنه تعالى قال: {لهم فيها ما يشاءون} وفيه بحثان:
الأول: أن هذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات، وهذا أبلغ من قوله: {فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين} لأن هذين القسمين داخلان في قوله: {لهم فيها ما يشاءون} مع أقسام أخرى.
الثاني: قوله: {لهم فيها ما يشاءون} يعني هذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة، لأن قوله: {لهم فيها ما يشاؤون} يفيد الحصر، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا.
{كذلك يجزي الله المتقين} أي هكذا جزاء التقوى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا المدح مشوفاً لتفصيل ذلك قيل: {جنّات عدن} أي إقامة لا ظعن فيها {يدخلونها} حال كونها {تجري من تحتها} أي من تحت غرفها {الأنهار} ثم أجيب من كأنه سأل عما فيها من الثمار وغيرها بقوله تعالى: {لهم فيها} أي خاصة، لا في شيء سواها من غير أن يجلب إليهم من غيرها {ما يشاؤون} ثم زاد في الترغيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {يجزي الله} أي الذي له الكمال كله {المتقين} أي الراسخين في صفة التقوى.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... {يَجْزِي الله المتقين} اللام للجنس أي كلَّ من يتقي من الشِرْك والمعاصي ويدخُل فيه المتقون المذكورون دخولاً أولياً، ويكون فيه بعثٌ لغيرهم على التقوى أو للعهد فيكون فيه تحسيرٌ للكفرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يفصل ما أجمل عن هذه الدار؛ فإذا هي (جنات عدن) للإقامة (تجري من تحتها الأنهار) رخاء. (لهم فيها ما يشاءون) فلا حرمان ولا كد ولا حدود للرزق كما هي الحياة الدنيا.. (كذلك يجزي الله المتقين).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وجملة {كذلك يجزي الله المتقين} مستأنفة، والإتيان باسم الإشارة لتمييز الجزاء والتّنويه به. وجعل الجزاء لتمييزه وكماله بحيث يشبّه به جزاءُ المتّقين. والتّقدير: يجزي الله المتّقين جزاء كذلك الجزاء الذي علمتموه. وهو تذييل لأنّ التعريف في {المتقين} للعموم.
... {لهم فيها ما يشاءون} والمشيئة هنا ليست بإرادة الدنيا ومشيئتها، وإنما مشيئة بالمزاج الخصب الذي يتناسب مع الآخرة ونعيمها.. مثلاً: إذا دخلت على إنسان رقيق الحال فلك مشيئة على قدر حالته، وإذا دخلت على أحد العظماء أو الأثرياء كانت لك مشيئة أعلى.. وهكذا. إذن: المشيئات النفسية تختلف باختلاف المشاء منه، فإذا كان المشاء منه هو الله الذي لا يعجزه شيء تكون مشيئتك مطلقة، فالمشيئة في الآية ليست كمشيئة الدنيا؛ لأن مشيئة الدنيا تتحدد ببيئة الدنيا.. أما مشيئة الآخرة فهي المشيئة المتفتحة المتصاعدة المرتقية كما تترقى المشيئات عند البشر في البشر حسب مراتبهم ومراكزهم...
لذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرح لنا هذا النص القرآني: {لهم فيها ما يشاءون} وكذلك قوله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} (سورة الزخرف 71) قال:"فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". إذن: تحديد الإطار للآية بقدر ما هم فيه عند ربهم.
{كذلك يجزي الله المتقين} أي: هكذا الجزاء الذي يستحقونه بما قدموا في الدنيا، وبما حرموا منه أنفسهم من متع حرام.. وقد جاء الآن وقت الجزاء، وهو جزاء أطول وأدوم؛ لذلك قال الحق تبارك وتعالى في آية أخرى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} (سورة الحاقة 24).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...فليس هناك حدٌّ لما يحققه الله لهم من أمنيات، في ما يخطر في بالهم من أمورٍ وحاجاتٍ وتطلّعات، فلهم أن يحلموا كما يحبون، لتكون أحلامهم حاضرةً بين أيديهم، دون حاجةٍ إلى الانتظار والقلق والترقب، كما كانت حالهم مع الأحلام في الدنيا، حيث تنتهي أحياناً دون أن يتحقق شيء منها. {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} الذين اتقوا ربهم في الفكر وفي العمل، في السرّ وفي العلن..