في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا} (8)

ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول ، بأن هذا الدمار قد يكون طريقا للرحمة :

( عسى ربكم أن يرحمكم ) إن أفدتم منه عبرة .

فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى فساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية : ( وإن عدتم عدنا ) . .

ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها . ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عبادا آخرين ، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم " هتلر " ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة " إسرائيل " التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات . وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقا لوعد الله القاطع ، وفاقا لسنته التي لا تتخلف . . وإن غدا لناظره قريب !

ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة :

( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) . . تحصرهم فلا يفلت منهم أحد ؛ وتتسع لهم فلا يند عنها أحد .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا} (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } .

يقول تعالى ذكره : لعلّ ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة ، فيستنقذكم من أيديهم ، وينتشلكم من الذلّ الذي يحله بكم ، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها ، فيعزّكم بعد ذلك . و«عسى » من الله : واجب . وفعل الله ذلك بهم ، فكثر عددهم بعد ذلك ، ورفع خَساستهم ، وجعل منهم الملوك والأنبياء ، فقال جلّ ثناؤه لهم : وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري ، وقتل رسلي ، عدنا عليكم بالقتل والسّباء ، وإحلال الذلّ والصّغار بكم ، فعادوا ، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن عمر بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عَدْنا قال : عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد . قال : فسلّط الله عليهم ثلاثة ملوك من ملوك فارس : سندبادان وشهربادان وآخر .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والاَخرة : عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال : فعادوا فسلّط الله عليهم المؤمنين .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال : عاد القوم بشرّ ما يحضرهم ، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته . ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة قال الله عزّ وجلّ في آية أخرى وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ لَيَبْعَثنّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ . . . الاَية ، فبعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا فعادوا ، فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله تعالى : عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ قال بعد هذا وَإنْ عُدْتُمْ لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء عُدْنا إليكم بمثل هذا .

وقوله : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن مَسْعدة ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران وجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِين حَصِيرا قال : سجنا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا يقول : جعل الله مأواهم فيها .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا قال : مَحْبِسا حَصُورا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا يقول : سجنا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : حَصِيرا قال : يحصرون فيها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا قال : يُحصرون فيها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا سجنا يسجنون فيها حصروا فيها .

حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافِرِينَ حَصِيرا يقول : سجنا .

وقال آخرون : معناه : وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : الحصير : فِراش ومِهاد .

وذهب الحسن بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يُبْسط ويفترش ، وذلك أن العرب تسمى البساط الصغير حصيرا ، فوجّه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا ، كما قال : لَهُمْ مِنْ جَهَنّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وهو وجه حسن وتأويل صحيح . وأما الاَخرون ، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس . وقد بيّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة ، وقد تسمي العرب الملك حصيرا بمعنى أنه محصور : أي محجوب عن الناس ، كما قال لبيد :

وَمَقامَةٍ غُلْبِ الرّقابِ كأنّهُمْ *** جِنّ لَدَى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ

يعني بالحصير : الملك ، ويقال للبخيل : حصور وحصر : لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة ، وحبسه إياه عن النفقة ، كما قال الأخطل :

وَشارِبٍ مُرْبحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي *** لا بالحَصُورِ وَلا فِيها بِسَوّارِ

ويروى : بسآر . ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه ، واحتباسه إذا أراده . ومنه أيضا الحصور عن النساء لتعذّر ذلك عليه ، وامتناعه من الجماع ، وكذلك الحصر في الغائط : احتباسه عن الخروج ، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفاظه . فأما الحصيران : فالجنبان ، كماقال الطرّماح :

قَلِيلاً تَتَلّى حاجَةً ثُمّ عُولِيَتْ *** عَلى كُلّ مَفْرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ

يعني بالحصيرين : الجنبين .

والصواب من القول في ذلك عندي أي يقال : معنى ذلك : وَجَعَلْنا جَهَنَمٍ للْكافرِينَ حَصِيرا فراشا ومهادا لا يزايله من الحصير الذي بمعنى البساط ، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الحبس والامتهاد ، مع أن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس ، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بمعنى حبس شيء ، فإنما تقول : هو له حاصر أو محصر فأما الحصير فغير موجود في كلامهم ، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به ، فيكون في لفظ فعيل ، ومعناه مفعول به ألا ترى بيت لبيد : لدى باب الحصير ؟ فقل : لدى باب الحصير ، لأنه أراد : لدى باب المحصور ، فصرف مفعولاً إلى فعيل . فأما فعيل في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر . فذلك ما لا نجده في كلام العرب ، فلذلك قلت : قول الحسن أولى بالصواب في ذلك . وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن ذلك جائز ، ولا أعلم لما قال وجها يصحّ إلا بعيدا وهو أن يقال : جاء حصير بمعنى حاصر ، كما قيل : عليم بمعنى عالم ، وشهيد بمعنى شاهد ، ولم يسمع ذلك مستعملاً في الحاصر كما سمعنا في عالم وشاهد .