التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا} (8)

قوله : ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) أي لعل الله أن يرحمكم بعد ما انتقم منكم بالذين بعثهم عليكم ليسوءوا وجوهكم بتقتيلكم وتدميركم وسبيكم ودخولهم المسجد ثانية مثلما دخلوه أول مرة ليعيثوا فيه الفساد والتخريب . لعله سبحانه يستنفذكم من هذا الكابوس الفظيع ، وينتشلكم مما حل بكم من الذل والهوان . وقد تحقق لهم ذلك ؛ إذ رفع عنهم الخساسة والذل ، وجعل منهم الأنبياء والملوك وكثّر عددهم تكثيرا .

قوله : ( وإن عدتم عدنا ) ذلك وعيد من الله قائم يتهدد به بني إسرائيل على مرّ الزمن . وجملة ذلك : إن عدتم يا بني إسرائيل إلى المعاصي والفساد والتخريب ومخالفة أوامر ربكم واتبعتم الشيطان وما تسوّله لكم أهواؤكم العاتية ( عدنا ) أي عدنا عليكم بتسليط من يجتاحكم ويجوس خلال دياركم فيبادركم القتل وإحلال الذل والصغار . ولقد عادوا فعاد الله عليهم بما توعدهم به من العقاب الأليم ؛ إذ بعث عليهم في كل إفسادة من إفساداتهم الكثيرة ، من يسومهم سوء العذاب بقتلهم وإذلالهم وتهجيرهم واستعبادهم .

قال ابن عباس في تأويل قوله : ( وإن عدتم عدنا ) : عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد .

وقال الرازي في هذا الصدد : يعني إن بعثنا عليكم من بعثنا ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة ؛ لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي ، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية ، عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى{[2644]} .

على أن المراد بعذابهم في الآية ، ما كان في الدنيا . أما عذاب الآخرة : فهو شأن آخر ؛ فهم كلما أفسدوا في الأرض وعاثوا في الدنيا تخريبا وتتبيرا ولما ؛ عجل الله لهم العذاب ؛ إذ بعث عليهم من يروم إهلاكهم وقتلهم بالجملة كالذي حصل لهم من تقتيل وإبادة على أيدي الجبابرة من طغاة العالم عبر التاريخ كبختنصر وسحاريب وطاغية مصر ، فرعون . وملوك الروم ، ثم أقطاب التسلط في العصور الوسطى الذين ساموا اليهود العذاب والهوان والتقتيل ، سواء في أوربا أو في غيرها من بلدان العالم . وذلك كله يكشف عن وعيد الله الذي لا يبرح بني إسرائيل . وهو وعيد قائم وماثل ، ما فتئ يتهدد يهود بالهلاك والتدمير كلما عادوا للإفساد في الأرض . وأصدق دليل على ذلك قوله سبحانه : ( وإن تأذن ربك ليعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) وقد بينا ذلك في سورة الأعراف .

قوله : ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) أي سجنا يحبسون فيه من الحصر وهو الحبس . وبذلك فإن جهنم محيطة بالكافرين من كل الجهات ولا رجاء لهم في التفلت أو الخلاص . وقيل : الحصر ، بمعنى الفراش أو البساط ؛ فقد جعل الله جهنم للكافرين فراشا ومهادا . {[2645]}

وبعد هذا البيان المفصل عن إفسادتي بني إسرائيل في الأرض . وتسليط الله الظالمين عليهم ؛ ما ينبغي لأحد أن يستدل من هذه الآيات على ان العقوبة الأخرى جزاء إفسادتهم الثانية لم تقع بعد . والصواب أن الإفسادتين الاثنتين قد وقعتا وقد أحل الله فيهم بسببها سخطه وغضبه فعذبهم بالتقتيل والإهلاك والسبي مرتين على أيدي العتاة المتجبرين من الأمم السابقة . أما الظن بأن العقاب الثاني كائن على أيدي المسلمين : فما نرى هذا إلا زعما خاطئا . ووجه الخطأ فيه : أن الذين توعد الله ببعثهم وهم أولوا البأس الشديد ، عتاة ظالمون سيجوسون خلال الديار إهلاكا وتدميرا ، فضلا عن دخول المسجد ليعيثوا فيه إفسادا وتخريبا . ويتجلى مثل هذه المعاني في قوله سبحانه : ( وليتبروا ما علو تتبيرا ) أي ليدمروا وليخربوا ما غلبوا عليه . ومما هو معلوم من أحكام الحرب في شريعة الإسلام أن المسلمين في قتالهم الكافرين ليسوا أهل تخريب أو إفساد ولا هم كغيرهم من الظالمين الذين يعيثون في البلاد ظلما وإهلاكا بغير حق . وما شأن المسلمين في حرب أعدائهم الكافرين إلا أنهم دعاة خير وسلام وعمران ومرحمة . لا جرم أن المسلمين في كل الأحوال ليسوا إلا أصحاب رسالة سماوية عليا يرومون نشرها في الآفاق بالمودة والحجة والحكمة والصدق . فالمسلمون في ذلك كله أشد الخليقة رحمة بالخليقة . وأعظم الناس تحنانا ورأفة بالعباد .

وما ينبغي التنبيه إليه هنا أن الوعيد من الله الذي يتهدد به يهود ، قائم ماثل أبد الدهر ؛ فهو وعيد غير قابل للنسخ أو الزوال ، يتجلى في قوله سبحانه : ( وإن عدتم عدنا ) أي إن عدتم إلى الفساد والخراب والظلم عدنا لتعذيبكم وكسر شوكتكم وإذلالكم . وكذلك قوله تعالى : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) فالله يبعث على بني إسرائيل كلما ظلموا وأفسدوا من يسومهم العذاب من متلف الشعوب والأمم ولئن بعث الله عليهم المسلمين ليعذبوا وليظهروا عليهم فما يكون المسلمون مخربين أو مفسدين أو ظالمين عتاة . وما كان شأنهم أن يظلموا الناس فيقتلوا الأطفال والأبرياء من الشيوخ والنساء والضعفاء . أو يعيثوا في البلاد هدما وتحريقا وهتكا . فما مثل هاتيك الفعال المرذولة والمظالم البشعة إلا ديدن الطغاة والمستكبرين والمتجبرين من طواغيت البشرية من أمثال بختنصر وسناريب وهولاكو وجنكيز خان وهتلر وستالين وغيرهم من عتاة الوثنيين والاستعماريين والصليبيين .


[2644]:- تفسير الرازي جـ20 ص 160.
[2645]:- تفسير الطبري جـ15 ص 24- 30 وتفسير الرازي جـ20 ص 154 -160.