محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا} (8)

[ 8 ] { عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا 8 } .

ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله : { عسى ربكم أن يرحمكم } أي إذا أخلصتم للإنابة ، وأحسنتم الأعمال ، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم ، لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة . ولذا قال : { وإن عدتم } أي بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار { عدنا } أي إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا .

{ وجعلنا } أي يوم القيامة { جهنم للكافرين حصيرا } أي محبسا وسجنا يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب .

قال الشهاب : إن كان { حصيرا } اسما للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه . وإن كان بمعنى حاصرا أي محيطا بهم ، وفعيل بمعنى فاعل ، يلزم مطابقته . فإما لأنه على النسب . كلابن وتامر . أو لحمله على ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) . أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقي أو لتأويلها بمذكر . انتهى .

وقيل : حصيرا ، أي بساطا كما يبسط الحصير . مثل قوله تعالى{[5375]} : { لهم من جهنم مهاد } فهو تشبيه بليغ . والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض . كما قاله الراغب .

/ تنبيه :

روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتبا لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه السلام . فلما ملك ابنه بعده ، وذلك قبل المسيح بما ينيف على تسعمائة سنة ، وقع من الاختلال في عهده ما أفضى إلى تقريره عبادة الأوثان . فعوجل ، بعد خمس سنين من ملكه بأخذ ملك مصر بيت المقدس وسلب كنوز هيكلها ( المسجد الأقصى ) ونهب ما فيها . ولما ساء تصرفه تمرد عليه شعبه وخلعوا طاعته . فانقسمت مملكته إلى قسمين : أحدهما دعي مملكة يهوذا وهي المؤلفة من سبطي يهوذا وبنيامين ، بقيا خاضعين لابن سليمان .

وثانيهما : دعي مملكة إسرائيل وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة . وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له يربعام . خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك . فأقام في مملكته عجلين من ذهب . وأمر رعيته بعبادتهما . ورتب لهم أعيادا احتفالية وكهنة . وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين . وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان . إلا أنه لا يلبث الحال حتى يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية . واستمرت مملكة إسرائيل نحوا من مائتين وخمسين سنة . وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشور ، ففتح السامرة بلدهم وسباهم إلى أشور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط ولم يسمع ذكرهم بعد . ثم أرسل ملك أشور قوما من بلاده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها . وأرسل معهم كاهنا من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم . فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى . وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة . وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير . فزحف إليه ملك بابل نبوخذناصر ( بختنصر ) فسبى قسما من شعبه ، كان السبي الأول .

ثم قام ، بعد ذلك الملك الشرير ، ابنه . فسار على طريقة أبيه . فعاد إليه ملك بابل المذكور/ واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسما من الشعب . وسلب الهيكل . وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنين من الأول .

ثم قام فيهم ملك أشر ممن تقدم وهو آخر ملوكهم وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضا بيت المقدس ، وأسره إلى بابل ، وأحرق المدينة والهيكل ، وسبى كل شعب يهوذا ، ما عدا مساكين الأرض ، إلى بابل . وهذا هو السبي الثالث والأخير .

وهكذا انقرضت هذه المملكة . وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة . ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس . وجددوا عمارتها وقيام الهيكل . وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك فارس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير . وغلبت اليونان الفرس وجاء الإسكندر إلى سورية فدخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان . وبعد وفاة الإسكندر انقسم ملكه إلى أربعة أقسام :

منها مملكة سورية ومصر . وكانت بينهما حروب متصلة . والإسرائيليون ، لما كانوا بينهما ، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية . واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية ، وتمسكوا بديانة اليونايين .

ثم استولى الرومانيون على فلسطين . وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود ، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم . وتملكوا بيت المقدس . وهدم تيطس ، أحد ملوكهم ، الهيكل إلى أساسه . وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم ، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده . وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة . وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم ، إلى أن سارت هيلانة ، أم قسطنطين ، إلى القدس وبنت كنيسة على القبر ، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح . وخربت الهيكل وأمرت أن تلقى فيه قمامات البلد وزبالته فصار موضوع الصخرة مزبلة . وبقي كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجدا ، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك ، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة .

/ وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ . ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية . لأنها بإيجازها غنية عنه ، وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها ، إلا أن أكثر المفسرين تطرفوا لبعض ماجريات اليهود هنا ، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون ، إيضاحا لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة .

وقد قدمنا في سورة يوسف ، أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع . ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها . وإنما يذكر موضع العبرة فيها ، كما قال تعالى{[5376]} : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } .


[5375]:[7 / الأعراف / 41].
[5376]:[12 / يوسف / 111].