السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا} (8)

ولما انقضى ذلك كان كأنه قيل هل بقي لهم نصرة على عدوّهم ؟ فقال تعالى : { عسى ربكم أن يرحمكم } يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فترد الدولة إليكم ثم بعد أن أطمعهم فزعهم بقوله تعالى : { وإن عدتم } أي : إلى المعصية { عدنا } أي : إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرّة أخرى . قال القفال : إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل : { وإذ تأذن ربك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } [ الأعراف ، 167 ] . ثم قال وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل فعاد الله تعالى عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ثم الباقي منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان ثم قال تعالى { وجعلنا } أي : بعد ذلك بعظمتنا { جهنم } أي : التي تلقى داخلها بالتجهيم والكراهة { للكافرين } وذكر الوصف الظاهر موضع الضمير لبيان تعلق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم وقوله تعالى { حصيرا } يحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى الفاعل أي : جعلنا جهنم حاصراً لهم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول أي : جعلناها موضعاً محصوراً لهم والمعنى أنّ عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد ينقلب بعض الناس عنه والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص منه إمّا بالموت وإمّا بطريق آخر ، وأمّا عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً .