سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون
قضية العقيدة بحقائقها الأساسية هي التي تعالجها هذه السورة . . الألوهية الواحدة . والحياة الآخرة . والوحي بالرسالة . يضاف إليها طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية .
وكل ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق ، واستدلال عليها . وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق ، وتحذير من التكذيب بها ، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة ، وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة . وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق ولا يستسلمون لله وحده ؛ بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة . . . كلهم يسجدون لله ويخشعون ويسلمون ويستسلمون .
فعن حقيقة الألوهية الواحدة يرد في مطلع السورة : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد ، فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين . . و : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين ) . . ويحكى عن عاد وثمود أن رسلهم قالت لهم هذه الحقيقة ذاتها : ألا تعبدوا إلا الله . . وفي وسطها يرد : ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهن ) . . وفي نهايتها يرد عن الحقيقة ذاتها : ( ويوم يناديهم أين شركائي ? قالوا : آذناك ما منا من شهيد ) . .
وعن قضية الآخرة يرد تهديد للذين لا يؤمنون بالآخرة : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ) . . وتختم بقوله : ( ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ، ألا إنه بكل شيء محيط ) . . كما يرد ذكر هذه القضية في مشاهد القيامة وهي عرض لما يقع فيها يقوم على تأكيد وقوعها طبعاً . بل إن هذا الطريق أشد توكيداً لهذه القضية وتشخيصاً .
وعن قضية الوحي يرد كلام كثير يكاد يجعل هذا الموضوع هو موضوع السورة الرئيسي . فهي تفتتح به في تفصيل : ( حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، فاعمل إننا عاملون . قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي . . . ) . . . وفي وسطها يجيء عن استقبال المشركين لهذا القرآن : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) . . ثم يرد تفصيل كثير لهذا الاستقبال والرد على أقوالهم فيه : ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ، وإنه لكتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . ما يقال لك : إلا ما قد قيل للرسل من قبلك . إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم . ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته ? أأعجمي وعربي ? قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى . أولئك ينادون من مكان بعيد . . . ) . .
وأما عن طريقة الدعوة وخلق الداعية فيرد قوله : ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيئة . ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم ) . .
هذه القضايا تعرض في حشد من المؤثرات الشعورية العميقة . تعرض في المجال الكوني الحافل بالآيات العظام . وتعرض في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين . وتعرض في مجال بشري من مصارع الغابرين . وأخيراً تعرض في جو من مشاهد القيامة وتأثيرها العميق ؛ وبعض هذه المشاهد فريد في صوره ومواقفه يثير الدهش الشديد .
ومن بين المشاهد الكونية في هذه السورة مشهد الخلق الأول للأرض والسماء بكثير من التفصيل المثير : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ? ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً . قالتا أتينا طائعين . فقضاهن سبع سماوات في يومين ، وأوحى في كل سماء أمرها . وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً . ذلك تقدير العزيز العليم . . ومن بينها كذلك آيات الليل والنهار والشمس والقمر وعبادة الملائكة وخشوع الأرض بالعبادة ونبضها بالحياة : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ؛ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير ) . . أما النفس البشرية فيكشف عن حقيقتها في هذه السورة ، وتعرض على أصحابها عارية من كل ستار : ( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ، وإن مسه الشر فيؤوس قنوط ، ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن : هذا لي ، وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ . وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) . .
ومن مصارع الغابرين يصور مصرع عاد ومصرع ثمود : فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق ، وقالوا : من أشد منا قوة ? أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ، وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون . ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . .
ومن مشاهد القيامة المؤثرة في هذه السورة : يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون . حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم : لم شهدتم علينا ? قالوا : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء . وهو خلقكم أول مرة ، وإليه ترجعون . . ومنها كذلك مشهد الحنق الواضح من المخدوعين على الخادعين : ( وقال الذين كفروا : ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس ، نجعلهما تحت أقدامنا ، ليكونا من الأسفلين ! ) . .
وهكذا تعرض حقائق العقيدة - في السورة - في هذا الحشد من المؤثرات العميقة . ولعل هذا الحشد المنوع من تلك المؤثرات يصف جو السورة ، ويصور طابعها ، ويرسم ظلالها . . والواقع أن القلب يجد أنه منذ مطلع السورة إلى ختامها أمام مؤثرات وإيقاعات تجول به في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أغوار النفس ، وفي مصارع البشر ، وفي عالم القيامة ، وتوقع على أوتاره إيقاعات شتى كلها مؤثر عميق . .
ويجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في شوطين اثنين ، متماسكي الحلقات . .
الشوط الأول يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه . وتليها قصة خلق السماء والأرض . فقصة عاد وثمود . فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود . ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلوا هذا الضلال ، فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس . يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم . ومن آثار هذا قولهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس ! وعلى الضفة الأخرى الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا . وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة - لا قرناء السوء - يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة . ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية . . وبذلك ينتهي هذا الشوط .
ويليه الشوط الثاني يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة ، والأرض الخاشعة ، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات . ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه ، وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب . ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه . ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب . وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها . وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات ، وما تكنه الأرحام من أنسال . ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء . يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها . ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر ، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب .
وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يتبينوا ويثقوا : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد . ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط . .
( حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب . فاعمل إننا عاملون . قل إنما أنا بشر مثلكم ، يوحى إليّ أنماَ إلهكم إله واحد ، فاستقيموا إليه واستغفروه ؛ وويل للمشركين ، الذين لا يؤتون الزكاة ، وهم بالآخرة هم كافرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ) . .
سبق الحديث عن الافتتاح بالأحرف المقطعة في سور شتى . وتكرار هذا الافتتاح : ا . ميم . . يتمشى مع طريقة القرآن في تكرار الإشارة إلى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري ، لأن فطرة هذا القلب تحتاج إلى تكرار التنبيه ؛ فهو ينسى إذا طال عليه الأمد ؛ وهو يحتاج ابتداء إلى التكرار بطرق شتى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه . والقرآن يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات ، وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرفه بما يشاء .
هذه السورة مكية ، وعدد آياتها أربع وخمسون . وهي سورة عظيمة تمتاز بكثرة ما حوته من صور الوعيد والتهديد والتخويف والتنذير ؛ فهي ما يتدبرها القارئ ويتملاها حتى تأخذه غمرة من الرهبة والادِّكار والوجل ، من شدة ما حوته مع بليغ الآيات والعظات والأخبار ، وصور التنبيه والتذكير التي تستديم في الذهن والخيال دوام الترقب والخشوع والحذر .
ويشير إلى هذه الحقيقة أبلغ إشارة قصة ذلك العربي القرشي اللسِنِ عتبة بن ربيعة ، وهو من أفذاذ البلاغة والبيان ؛ فإنه لدى سماع بضع آيات من مطلع هذه السورة ، غشيه من الذهول والفزع ما غشيه حتى مكث ساكتا مضطربا يتلعثم ، مع أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاحدا ومنددا ومحذرا . ثم تولى مدبرا مذعورا من هول ما سمع .
وفي السورة ، يقص الله عن نبأ قوم عاد ، إذ أعرضوا وجحدوا فأخذهم الله بريح قاصف عاصف مدمِّر . وكذلك قوم ثمود الذين ظلموا وطغوا وعقروا ناقة الله فأخذتهم الصيحة والرجفة حتى زلزلوا وهلكوا .
وفي السور إخبار عن شهادة جلود الظالمين الخاسرين ، إذ تشهد عليهم بما فعلوه من المعاصي والسيئات ، إذ أنطقها الله الذي أنطق كل شيء .
ويبينُ اللهُ لنا في السورة تمالؤ المشركين على كتابه الحكيم باللغو فيه إذا سمعوه يُتلى كيلا يفهموه ولا يتدبروه . إلى غير ذلك من ألوان التبشير والتنذير والتحذير والوعيد والترشيد مما حوته هذه السورة الحافلة العجيبة .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : { حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( 4 ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } .
تتضمن هذه الآيات وما بعدها تقريعا وتوبيخا وتهديدا للمشركين الذين أعرضوا عن عقيدة التوحيد وأدبروا عن سماع القرآن وما فيه من العظات والحجج والشواهد والمعاني . مع أنه كتاب نزل ميسورا مفصلا بلغتهم ، يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر والظلم والباطل ويبشرهم بخير الدنيا والآخرة { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } .
وقد روي عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا وشتَّت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ماذا يرد عليه فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أن عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ . وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، وإنّا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرَّقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب ؛ حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى . أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فرغت ؟ " قال نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } حتى بلغ { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فقال عتبة : حسبك حسبك ما عندهم غير هذا ؟ وفي رواية عن جابر بن عبد الله ؛ إذا ذكر الحديث إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه ، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدا أبدا ، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب .
وأورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة عن محمد بن كعب القرظي قال : حُدِّثتُ أن عتبة بن ربيعة – وكان سيدا – قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم على محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفَّ عنا ؟ - وذلك حين أسلم حمزة ( رضي الله عنه ) ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون – فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمهُ . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل يا أبا الوليد أسمع " . قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك . وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده على نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه ، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم ، قال " فاستمع مني " قال : أفعل ، قال : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه ، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي ، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ؛ فو الله ليكون لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزَّهُ عزكم وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ؟ قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم{[4040]} .