( ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ! ) . .
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً ؟ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى ؟ وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى ؟ وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا ؟ من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي ، ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها ، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض ، الحائر القلق ، اللاهث لهاث الكلب أبداً ! ! !
وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد ؛ إلا هذا القرآن العجيب الفريد ! !
وبعد . . فهل هو نبأ يتلى ؟ أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيراً . فهو من هذا الجانب خبر يروى ؟
تذكر بعض الروايات أنه نبأ رجل كان صالحاً في فلسطين - قبل دخول بني إسرائيل - وتروي بالتفصيل الطويل قصة انحرافه وانهياره ؛ على نحو لا يأمن الذي تمرس بالإسرائيليات الكثيرة المدسوسة في كتب التفاسير ، أن يكون واحدة منها ؛ ولا يطمئن على الأقل لكل تفصيلاته التي ورد فيها ؛ ثم إن في هذه الروايات من الاختلاف والاضطراب ما يدعو إلى زيادة الحذر . . فقد روي أن الرجل من بني إسرائيل [ بلعام بن باعوراء ] ، وروي أنه كان من أهل فلسطين الجبابرة . وروي أنه كان من العرب [ أمية بن الصلت ] . وروي أنه كان من المعاصرين لبعثة الرسول [ ص ] [ أبو عامر الفاسق ] وروي أنه كان معاصراً لموسى عليه السلام . وروي أنه كان بعده على عهد يوشع بن نون الذي حارب الجبارين ببني إسرائيل بعد تيه الأربعين سنة على إثر رفض بني إسرائيل الدخول ، وقولهم لموسى - عليه السلام - ما حكاه القرآن الكريم : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . كذلك روي في تفسير الآيات التي أعطيها أنه كان [ اسم الله العظيم ] الذي يدعو به فيجاب ؛ كما روي أنه كتاب منزل وأنه كان نبياً . . ثم اختلفت تفصيلات النبأ بعد ذلك اختلافات شتى . .
لذلك رأينا - على منهجنا في ظلال القرآن - ألا ندخل في شيء من هذا كله . بما أنه ليس في النص القرآني منه شيء . ولم يرد من المرفوع إلى رسول الله [ ص ] عنه شيء . وأن نأخذ من النبأ ما وراءه . فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها . . وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر ؛ ما أكثر الذين يعطون علم دين الله ، ثم لا يهتدون به ، إنما يتخذون هذا العلم وسيلةلتحريف الكلم عن مواضعه . واتباع الهوى به . . هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم - في وهمهم - عرض الحياة الدنيا .
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها . ويعلن غيرها . ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة ، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل ! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعاً !
لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول : إن التشريع حق من حقوق الله - سبحانه - من ادعاه فقد ادعى الألوهية . ومن ادعى الألوهية فقد كفر . ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضاً ! . . ومع ذلك . . مع علمه بهذه الحقيقة ، التي يعلمها من الدين بالضرورة ، فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع ، ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق . . ممن حكم عليهم هو بالكفر ! ويسميهم " المسلمين " ! ويسمي ما يزاولونه إسلاما لا إسلام بعده ! . . ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً ؛ ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر . . ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس ، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ؟ وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه الله سبحانه عن صاحب النبأ : ( ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه . فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ! ) . . ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته . ولكنه - سبحانه - لم يشأ ، لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، ولم يتبع الآيات . .
إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله ؛ فلم ينتفع بهذا العلم ؛ ولم يستقم على طريق الإيمان . وانسلخ من نعمة الله . ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان . ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان !
ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع ؟
إنه - في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن - ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها . ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبداً . والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه ؛ فهو منطلق فيه أبداً !
والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة . . حتى إنه لتمر فترات كثيرة ، وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله . فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله ، ممن لا ينسلخون من آيات الله ، ولا يخلدون إلى الأرض ؛ ولا يتبعون الهوى ؛ ولا يستذلهم الشيطان ؛ ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان ! . . فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده ؛ وما هو بمحصور في قصة وقعت ، في جيل من الزمان !
وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله ، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها . ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى ، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئاً أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة ؛ وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً ؛ وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو . فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة !
ولقد رأينا من هؤلاء - والعياذ بالله - في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه ؛ أو كمن يعضبالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة ! فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم ! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا !
اللهم اعصمنا ، وثبت أقدامنا ، وأفرغ علينا صبراً ، وتوفنا مسلمين . .
ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى . .
إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها ؛ وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى . .
ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية ، ليس العلم وحده لمجرد المعرفة ؛ ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضاً . .
إن المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة " نظرية " للدراسة . . فهذا مجرد علم لا ينشىء في عالم الضمير ولا في عالم الحياة شيئاً . . إنه علم بارد لا يعصم من الهوى ، ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً . ولا يدفع الشيطان بل ربما ذلل له الطريق وعبدها !
كذلك هو لا يقدم هذا الدين دراسات في " النظام الإسلامي " ولا في " الفقه الإسلامي " ولا في " الاقتصاد الإسلامي " ولا في " العلوم الكونية " ولا في " العلوم النفسية " ولا في أية صورة من صور الدراسة المعرفية !
إنما يقدم هذا الدين عقيدة دافعة دافقة محيية موقظة رافعة مستعلية ؛ تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي فور استقرارها في القلب والعقل ؛ وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع ؛ وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول ؛ وترفع الاهتمامات والغايات فلا تثقلها جاذبية الطين ولا تخلد إلى الأرض أبداً .
ويقدمه منهجاً للنظر والتدبر ؛ يتميز ويتفرد دون مناهج البشر في النظر ، لأنه إنما جاء لينقذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها وانحرافها تحت لعب الأهواء ، وثقلة الأبدان ، وإغواء الشيطان !
ويقدمه ميزانا للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم ، وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم وتصوراتهم ؛ فما قبله منها هذا الميزان كان صحيحاً لتمضي فيه ؛ وما رفضه هذا الميزان كان خاطئا يجب الإقلاع عنه .
ويقدمه منهجا للحركة يقود البشرية خطوة خطوة في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة . وفق خطاه هو ووفق تقديراته . . وفي أثناء الحركة الواقعية يصوغ للناس نظام حياتهم ، وأصول شريعتهم ، وقواعد اقتصادهم واجتماعهم وسياستهم . ثم يصوغ الناس بعقولهم المنضبطة به تشريعاتهم القانونية الفقهية ، وعلومهم الكونية والنفسية ، وسائر ما تتطلبه حياتهم العملية الواقعية . . يصوغونها وفي نفوسهم حرارة العقيدة ودفعتها ، وجدية الشريعة وواقعيتها ؛ واحتياجات الحياة الواقعية وتوجيهاتها .
هذا هو المنهج القرآني في صياغة النفوس المسلمة والحياة الإسلامية . . أما الدراسة النظرية لمجرد الدراسة ، فهذا هو العلم الذي لا يعصم من ثقلة الأرض ودفعة الهوى وإغواء الشيطان ؛ ولا يقدم للحياة البشرية خيرا !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.