الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{سَآءَ مَثَلًا ٱلۡقَوۡمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَأَنفُسَهُمۡ كَانُواْ يَظۡلِمُونَ} (177)

قوله تعالى : { سَآءَ مَثَلاً } : " ساء " بمعنى بئس ، وفاعلها مضمر فيها و " مثلاً " تمييزٌ مفسِّر له ، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين . وتقدَّم أن " ساءَ " أصلُها التعدِّي لمفعولٍ ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز/ ، والتمييز مفسِّر للفاعلِ فهو هو ، فلزم أن يَصْدُقَ الفاعلُ والتمييز والمخصوصُ على شيءٍ واحد . إذا عُرِف هذا فقوله " القوم " غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل ، فلا جَرَمَ أنه لا بد من تقدير محذوف : إمَّا من التمييز ، وإمَّا من المخصوص ، فالأولُ يقدَّر : ساء أصحاب مَثَل ، أو أهل مثل القوم ، والثاني يُقَدَّر : ساء مَثَلاً مثلُ القوم ، ثم حُذِف المضاف في التقديرين وأقيم المضاف إليه مُقامه ، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للتي قبلها .

وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بن عمر : " ساء مثلُ القوم " برفع " مثل " مضافاً للقوم . والجحدري رُوِي عنه كذلك ، وروي عنه كسرُ الميم وسكونُ الثاء ورفعُ اللام وجَرُّ القوم . وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون " ساء " للتعجب مبنية تقديراً على فَعُل بضم العين كقولهم : " لقَضُو الرجل " ، و " مثل القوم " فاعل بها ، والتقدير : ما أسوأ مثلَ القوم ، والموصولُ على هذا في محلِّ جرٍ نعتاً لقوم . والثاني : أنها بمعنى بئس ، ومَثَلُ القوم فاعل ، والموصولُ على هذا في محل رفعٍ لأنه المخصوصُ بالذمِّ ، وعلى هذا فلا بد مِنْ حَذْف مضاف ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحد . والتقدير : ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين . وقَدَّر الشيخ تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظرٌ ، إذ لا يحتاج إلى تمييز إذا كان الفاعلُ ظاهراً حتى جَعَلوا الجمع بينهما ضرورةً كقوله :

تَزوَّدْ مثلَ زادِ أبيك فينا *** فنعمَ الزَّادُ زادُ أبيك زادا

وفي المسألة ثلاثةُ مذاهب : الجوازُ مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتفصيل : فإن كان مغايراً للفظِ ومفيداً فائدةً جديدة جاز نحو : نعم الرجل شجاعاً زيد ، وعليه قوله :

تخيَّرَهُ فلم يَعْدِلْ سواه *** فنِعْمَ المرءُ مِنْ رجلٍ تَهامي

قوله : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } مفعول ل " يظلمون " ، وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها ؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديم العامل غالباً . وقلت " غالباً " لأن ثَمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ }

[ الضحى : 9 ] فاليتيم مفعول ب " تقهر " ولا يجوز تقديم " تقهر " على جازِمِه ، وهو محتملٌ للبحث .

وهذه الجملة الكونيةُ تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكونَ نسقاً على الصلة وهي " كَذَّبوا بآياتنا " . والثاني : أن تكون مستأنفة ، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها ، وقُدِّمَ المفعولُ ليفيدَ الاختصاص ، وهذا على طريق الزمخشري وأنظاره .