اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَآءَ مَثَلًا ٱلۡقَوۡمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَأَنفُسَهُمۡ كَانُواْ يَظۡلِمُونَ} (177)

قوله : " سَاءَ مثلاً " " سَاءَ " بمعنى : بِئْسَ " ، وفاعلها مضمرٌ فيها ، ومثلاً تمييزٌ مفسِّر له ، وقد تقدم [ النساء 38 ] أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنَى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين ، وتقدَّم أنَّ " سَاءَ " أصلها التَّعدِّي لمفعولٍ ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز ، والتمييز مُفَسِّر للفاعل فهوهو ، فلزم أن يصدق الفاعلُ والتمييزُ والمخصوص على شيءٍ واحدٍ ، إذا عُرِف هذا فقوله : " القَوْمُ " غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل فلا جرم أنَّه لا بدَّ من تقدير محذوف إمَّا من التَّمييز ، وإمَّا من المخصوص .

فالأوَّلُ يقدَّر : ساء أصحابُ مثل أو أهلُ مثل القوم ، والثاني يقدر : ساء مثلاً مثل القوم ، ثم حذف المضاف في التقديرين ، وأقيم المضافُ إليه مُقامه ، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للَّتي قبلها .

وقرأ الحسنُ{[17015]} والأعمشُ وعيسى بن عمر : " سَاءَ مثلُ القَوْمِ " برفع " مثل " مضافاً للقوم .

وروي عن الجحدري كذلك ، وروي عنه كسر الميم{[17016]} وسكون الثاء ورفع اللاَّم وجرُّ " القوم " وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون " سَاءَ " للتَّعَجُّب ، مبنيَّةٌ تقديراً على " فَعُلَ " بضمِّ العين كقولهم : لَقَضُوا الرجلُ ، و " مَثَل القوْم " فاعل بها ، والتقدير : ما أسوأ مثل القومِ ، والموصولُ على هذا في محل جر ، نعتاً ل " قَوم " .

والثاني : أنَّها بمعنى " بِئْسَ " و " مثلُ القوم " فاعل ، والموصولُ على هذا في محلِّ رفعٍ ؛ لأنه المخصوصُ بالذَّمِّ ، وعلى هذا لا بد مِنْ حذف مضاف ، ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ ، والتقدير : ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين ، وقدَّر أبو حيان تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظر ؛ إذْ لا يحتاج إلى تمييز ، إذا كان الفاعلُ ظاهراً ، حتَّى جعلُوا الجمع بينهما ضرورةً ، كقول الشَّاعر : [ الوافر ]

تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أبيكَ فِينَا *** فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ زَادَا{[17017]}

وفي المسألة ثلاثة مذاهب : الجوازُ مطلقاً ، والمَنْعُ مطلقاً ، والتَّفصيلُ ، فإن كان مغايراً في اللَّفظ ومفيداً فائدة جديدة جاز نحو : نعم الرَّجُلُ شجاعاً زيدٌ ؛ وعليه قوله : [ الوافر ]

تَخَيَّرَهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ *** فَنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تِهَامِي{[17018]}

فصل

قال اللَّيْثُ : سَاءَ يَسُوءُ : فعلٌ لازمٌ ومتعد ، يقال : ساء الشَّيءُ يَسُوء فهو سيّىءٌ وسَاءَه يَسُوءُهُ مَسَاءَةً ، إذا قبح .

فإن قيل : ظاهر قوله : " سَاءَ مَثَلاً " يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسُّوء ، وذلك غير جائز ؛ لأن هذا المثل ذكره الله تعالى ، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوء ؟ وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكُفرِ والدَّعوة إلى الإيمان ، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوءِ ؟

فالجوابُ : أنَّ الموصوف بالسُّوءِ ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها ، حتَّى صارُوا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلبِ اللاَّهِث .

قوله : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } " أنْفُسَهُمْ " مفعول ل " يَظْلِمُونَ " وفيه دليلٌ على تقديم خبر " كان " عليها ؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذنُ بتقديم العامل غالباً ، لأنَّ ثمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] ف " اليتيمَ " مفعول ب " تقهر " ولا يجوز تقديم " تَقْهَرْ " على جازمه ، وهو محتملٌ للبحث .

وهذه الجملةُ الكونيةُ تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون نسقاً على الصلة وهي " كذَّبُوا بآيَاتِنَا " والمعنى : الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله ، وظلم أنفسهم .

والثاني : أن تكون مستأنفة ، أي : وما ظلموا إلا أنفسهم بالتَّكذيب ، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها ، وقُدِّم المفعولُ ، ليفيدَ الاختصاص وهذا على طريق الزمخشريِّ وأنظاره كأنَّهُ قيل : وخصوا أنفسهم بالظُّلْمِ ، وما تعدى أثر ذلك الظُّلم عنهم إلى غيرهم .


[17015]:ينظر: الكشاف 2/179، والمحرر الوجيز 2/479، والبحر المحيط 4/424، والدر المصون 3/373.
[17016]:ينظر: المحرر الوجيز 2/479، والبحر المحيط 4/424، والدر المصون 3/373.
[17017]:البيت لجرير: ينظر ديوانه 117، المقتضب 2/148، المفصل لابن يعيش 7/132، الخصائص 1/83، الخزانة 9/394، الأشموني 2/203، المقرب 73 ابن عقيل 2/130، العيني 4/30، الدر المصون 3/374.
[17018]:البيت لأبي بكر بن الأسود. ينظر: المقرب 1/69، وشرح المفصل 7/133، والهمع 2/86، والتصريح 1/399، والدرر 5/227، وأوضح المسالك 2/360، وخزانة الأدب 9/395 وشرح الأشموني 1/265، والدر المصون 3/374.