قوله : " سَاءَ مثلاً " " سَاءَ " بمعنى : بِئْسَ " ، وفاعلها مضمرٌ فيها ، ومثلاً تمييزٌ مفسِّر له ، وقد تقدم [ النساء 38 ] أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنَى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين ، وتقدَّم أنَّ " سَاءَ " أصلها التَّعدِّي لمفعولٍ ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز ، والتمييز مُفَسِّر للفاعل فهوهو ، فلزم أن يصدق الفاعلُ والتمييزُ والمخصوص على شيءٍ واحدٍ ، إذا عُرِف هذا فقوله : " القَوْمُ " غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل فلا جرم أنَّه لا بدَّ من تقدير محذوف إمَّا من التَّمييز ، وإمَّا من المخصوص .
فالأوَّلُ يقدَّر : ساء أصحابُ مثل أو أهلُ مثل القوم ، والثاني يقدر : ساء مثلاً مثل القوم ، ثم حذف المضاف في التقديرين ، وأقيم المضافُ إليه مُقامه ، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للَّتي قبلها .
وقرأ الحسنُ{[17015]} والأعمشُ وعيسى بن عمر : " سَاءَ مثلُ القَوْمِ " برفع " مثل " مضافاً للقوم .
وروي عن الجحدري كذلك ، وروي عنه كسر الميم{[17016]} وسكون الثاء ورفع اللاَّم وجرُّ " القوم " وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون " سَاءَ " للتَّعَجُّب ، مبنيَّةٌ تقديراً على " فَعُلَ " بضمِّ العين كقولهم : لَقَضُوا الرجلُ ، و " مَثَل القوْم " فاعل بها ، والتقدير : ما أسوأ مثل القومِ ، والموصولُ على هذا في محل جر ، نعتاً ل " قَوم " .
والثاني : أنَّها بمعنى " بِئْسَ " و " مثلُ القوم " فاعل ، والموصولُ على هذا في محلِّ رفعٍ ؛ لأنه المخصوصُ بالذَّمِّ ، وعلى هذا لا بد مِنْ حذف مضاف ، ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ ، والتقدير : ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين ، وقدَّر أبو حيان تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظر ؛ إذْ لا يحتاج إلى تمييز ، إذا كان الفاعلُ ظاهراً ، حتَّى جعلُوا الجمع بينهما ضرورةً ، كقول الشَّاعر : [ الوافر ]
تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أبيكَ فِينَا *** فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ زَادَا{[17017]}
وفي المسألة ثلاثة مذاهب : الجوازُ مطلقاً ، والمَنْعُ مطلقاً ، والتَّفصيلُ ، فإن كان مغايراً في اللَّفظ ومفيداً فائدة جديدة جاز نحو : نعم الرَّجُلُ شجاعاً زيدٌ ؛ وعليه قوله : [ الوافر ]
تَخَيَّرَهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ *** فَنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تِهَامِي{[17018]}
قال اللَّيْثُ : سَاءَ يَسُوءُ : فعلٌ لازمٌ ومتعد ، يقال : ساء الشَّيءُ يَسُوء فهو سيّىءٌ وسَاءَه يَسُوءُهُ مَسَاءَةً ، إذا قبح .
فإن قيل : ظاهر قوله : " سَاءَ مَثَلاً " يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسُّوء ، وذلك غير جائز ؛ لأن هذا المثل ذكره الله تعالى ، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوء ؟ وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكُفرِ والدَّعوة إلى الإيمان ، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوءِ ؟
فالجوابُ : أنَّ الموصوف بالسُّوءِ ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها ، حتَّى صارُوا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلبِ اللاَّهِث .
قوله : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } " أنْفُسَهُمْ " مفعول ل " يَظْلِمُونَ " وفيه دليلٌ على تقديم خبر " كان " عليها ؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذنُ بتقديم العامل غالباً ، لأنَّ ثمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] ف " اليتيمَ " مفعول ب " تقهر " ولا يجوز تقديم " تَقْهَرْ " على جازمه ، وهو محتملٌ للبحث .
وهذه الجملةُ الكونيةُ تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون نسقاً على الصلة وهي " كذَّبُوا بآيَاتِنَا " والمعنى : الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله ، وظلم أنفسهم .
والثاني : أن تكون مستأنفة ، أي : وما ظلموا إلا أنفسهم بالتَّكذيب ، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها ، وقُدِّم المفعولُ ، ليفيدَ الاختصاص وهذا على طريق الزمخشريِّ وأنظاره كأنَّهُ قيل : وخصوا أنفسهم بالظُّلْمِ ، وما تعدى أثر ذلك الظُّلم عنهم إلى غيرهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.