تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا} (46)

الرابع : كونه { دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ } أي : أرسله اللّه ، يدعو الخلق إلى ربهم ، ويسوقهم{[708]}  لكرامته ، ويأمرهم بعبادته ، التي خلقوا لها ، وذلك يستلزم استقامته ، على ما يدعو إليه ، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه ، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة ، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله ، وذكر أنواع العبودية ، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وإخلاص الدعوة إلى اللّه ، لا إلى نفسه وتعظيمها ، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام ، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره .

الخامس : كونه { سِرَاجًا مُنِيرًا } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة ، لا نور ، يهتدى به في ظلماتها ، ولا علم ، يستدل به في جهالاتها{[709]}  حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم ، فأضاء اللّه به تلك الظلمات ، وعلم به من الجهالات ، وهدى به ضُلَّالًا إلى الصراط المستقيم .

فأصبح أهل الاستقامة ، قد وضح لهم الطريق ، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة ، واستناروا به ، لمعرفة معبودهم ، وعرفوه بأوصافه الحميدة ، وأفعاله السديدة ، وأحكامه الرشيدة .


[708]:- في ب: يشوقهم.
[709]:- كذا في ب، وفي أ: جهاتها.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا} (46)

{ وداعيا إلى الله } إلى الإقرار به وبتوحيده وما يجب الإيمان به من صفاته . { بإذنه } بتيسيره وأطلق له من حيث أنه من أسبابه وقيد به الدعوة إيذانا بأنه أمر صعب لا يتأتى إلا بمعونة من جناب قدسه . { وسراجا منيرا } يستضاء به عن ظلمات الجهالات ويقتبس من نوره أنوار البصائر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا} (46)

والدعاء إلى الله تعالى هو تبليغ التوحيد والأخذ به ومكافحة الكفرة . و { بإذنه } معناه هنا بأمره إياك وتقديره ذلك في وقته وأوانه ، { وسراجاً منيراً } استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه فكأن المهديين به والمؤمنين يخرجون به من ظلمة الكفر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا} (46)

والداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى ترك عبادة غير الله ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله . وأصل دَعاه إلى فلان : أنه دعاه إلى الحضور عنده ، يقال : ادعُ فلاناً إليَّ . ولما عُلم أن الله تعالى منزه عن جهة يحضرها الناس عنده تعين أن معنى الدعاء إليه الدعاء إلى ترك الاعتراف بغيره ( كما يَقولون : أبو مسلم الخراساني يدعو إلى الرضَى من آل البيت ) فشمل هذا الوصف أصول الاعتقاد في شريعة الإِسلام مما يتعلق بصفات الله لأن دعوة الله دعوة إلى معرفته وما يتعلق بصفات الدُعاة إليه من الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم .

وزيادة { بإذنه } ليفيد أن الله أرسله داعياً إليه ويسّر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره وهو ما كان استشعره النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ الوحي من الخشية إلى أن أُنزل عليه { يا أيها المدثر قم فأنذر } [ المدثر : 1 ، 2 ] ، ومثلُه قوله تعالى لموسى : { لا تخف إنك أنت الأعلى } [ طه : 68 ] ، فهذا إذن خاص وهو الإِذن بعد الإِحجام المقتضي للتيسير ، فأطلق اسم الإِذن على التيسير على وجه المجاز المرسل . ونظيره قوله تعالى خطاباً لعيسى عليه السلام : { وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } [ المائدة : 110 ] وقوله حكاية عن عيسى { فأنفخ فيه فيكون طائراً بإذن الله } [ آل عمران : 49 ] .

وقوله { وسراجاً منيراً } تشبيه بليغ بطريق الحالية وهو طريق جميل ، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها ، كما يضيء السراج الوقّاد ظلمة المكان . وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم ، فإن العلم يشبَّه بالنور فناسبه السراج المنير . وهذا وصف شامل لجميع الأوصاف التي وصف بها آنفاً فهو كالفذلكة وكالتذييل .

ووصف السراج ب { منيراً } مع أن الإِنارة من لوازم السراج هو كوصف الشيء بالوصف المشتق من لفظه في قوله : شعر شاعر ، وليلٌ ألْيَل لإِفادة قوة معنى الاسم في الموصوف بهِ الخاص فإن هدى النبي صلى الله عليه وسلم هو أوضح الهدى . وإرشاده أبلغ إرشاد .

روى البخاري في كتاب « التفسير » من صحيحه في الكلام على سورة الفتح عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال : « إن هذه الآية التي في القرآن : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } قال في التوراة : يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحِرزاً للأمِّيين ، أنت عبدي ورسولي سمّيتك المتوكِّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صَخَّاب في الأسواق ، ولا يدفع السيِّئة بالسيئة ولكنْ يعْفو ويصفح ( أو وَيغفر ) ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العَوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتحَ ( أو فيفتح ) به أعينا عُمْياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاء » اهـ .

وقول عبد الله بن عمرو « في التوراة » يعني بالتوراة : أسفار التوراة وما معها من أسفار الأنبياء إذ لا يوجد مثل ذلك فيما رأيت من الأسفار الخمسة الأصليّة من التوراة . وهذا الذي حدث به عبد الله بن عَمرو ورأيت مقارِبه في سفر النبي أشعياء من الكتب المعبر عنها بالتوراة تغليباً وهي الكتب المسماة بالعهد القديم ؛ وذلك في الإصحاح الثاني والأربعين منه بتغيير قليل ( أحسب أنه من اختلاف الترجمة أو من تفسيرات بعض الأحبار وتأويلاتهم ) ، ففي الإصحاح الثاني والأربعين منه « هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرَّتْ به نفسي ، وَضَعْتُ رُوحي عليه فيُخرج الحق للأمم ، لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته ، قصبة مرضوضة لا تقصف ، وفتيلة خامدة لا تطفأ ، إلى الأمان يخرج الحق ، لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر{[329]} شريعته أنا الرب قد دعوتك بالبر فأُمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم لنفتح عيون العُمي لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن ، الجالسين في الظلمة ، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر » .

وإليك نظائر صفته التي في التوراة من صفاته في القرآن : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } نظيرها هذه الآية وحرزاً للأميين { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } سورة [ الجمعة : 2 ] أنت عبدي ورسولي { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } سورة [ الكهف : 1 ] سميتك المتوكل { وتوكل على الله } سورة [ الأحزاب : 3 ] ليس بفظ ولا غليظ { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } ( سورة [ آل عمران : 159 ] ولا صخّاب في الأسواق { واغضض من صوتك } سورة [ لقمان : 19 ] ولا يدفع السيئة بالسيئة { وادفع بالتي هي أحسن } سورة [ فصلت : 34 ] ولكن يعفو ويصفح { فاعف عنهم واصفح } سورة [ العقود : 13 ] ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملةَ العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً } سورة [ المائدة : 3 ] ويفتح به أعينا عُمْياً وآذاناً صُمًّا وقلوباً غُلْفاً { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } في سورة [ البقرة : 7 ] في ذكر الذين كفروا مقابلاً لذكر المؤمنين في قوله قبله { هدى للمتقين } الآية [ البقرة : 2 ] .

ولنذكرْ هنا ما في سفر أشعياء ونقحم فيه بيان مقابلة كلماته بالكلمات التي جاءت في حديث عبد الله بن عمَرو .

جاء في الإصحاح الثاني والأربعين من سفر أشعياء : هو ذا عبدي ( أنت عبدي ) الذي أعضده مختاري ( ورسولي ) الذي سُرت به نفسي ، وضَعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح ( ليس بفظّ ) ولا يرفع ( ولا غليظ ) ولا يسمع في الشارع صوته ( ولا صَخَّاب في الأَسواق ) قصبة مرضوضة لا يقصف ( ولا يدفع السيئة بالسيئة ) وفتيلة خامدة لا يَطفا ( يعفو ويصفح ) إلى الأمان يُخرج الحق ( وحرزاً ) لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض ( ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ) وتنتظر الجزائر شريعته ( للأميين ) أنا الرب قد دعوتك بالبر فأُمسكُ بيدِك ( سميتك المتوكل ) وأحفظك ( ولن يقبضه الله ) وأجعلك عهداً للشعب أرسلناك شاهداً ( ونوراً للأمم ) ( مبشراً ) لنفتح عيون العُمي ( ونفتح به أعيناً عمياً ) لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن ( وآذاناً صُمًّا ) الجالسين في الظلمة ( وقلوباً غلفاً ) . أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ( بأن يقولوا لا إله إلا الله ) .


[329]: الجزائر: جزيرة العرب، لقوله في هذا السفر في هذا الإصحاح: « والجزائر وسكانها لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها ( قيدار) فإن قيدار اسم ابن إسماعيل كما في سفر التكوين. فأراد: نسل قيدار وهو الإسماعيليون وهم الأميون.