{ ولَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي : وهلا إذ سمعتم -أيها المؤمنون- كلام أهل الإفك { قُلْتُمْ } منكرين لذلك ، معظمين لأمره : { مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا } أي : ما ينبغي لنا ، وما يليق بنا الكلام ، بهذا الإفك المبين ، لأن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح { هَذَا بُهْتَانٌ } أي : كذب عظيم .
{ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا } ما ينبغي وما يصح لنا . { أن نتكلم بهذا } يجوز أن تكون الإشارة إلى القول المخصوص وأن تكون إلى نوعه ، فإن قذف آحاد الناس محرم شرعا فضلا عن تعرض الصديقة ابنة الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . { سبحانك } تعجب من ذلك الإفك أو ممن يقول ذلك ، وأصله أن يذكر عند كل متعجب ، أو تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ثم كثر فاستعمل لك متعجب ، أو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فيكون تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله : { هذا بهتان عظيم } لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها .
وقوله تعالى : { ولولا إذ سمعتموه } إلى { حكيم } ، عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه السلام وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها { بهتان } ، وحقيقة البهتان أَن يقال في الإنسان ما ليس فيه والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم وعظ الذين خاضوا في أمر عائشة، رضي الله عنها، فقال سبحانه: {ولولا} يعني: هلا {إذ سمعتموه} يعني: القذف {قلتم ما يكون لنا} يعني: ما ينبغي لنا {أن نتكلم بهذا} الأمر... ثم قال عز وجل: ألا قلتم {سبحانك} يعني: ألا نزهتم الرب جل جلاله عن أن يعصى، وقلتم {هذا} القول {بهتان عظيم}، لشدة قولهم، والبهتان الذي يبهت، فيقول ما لم يكن من قذف أو غيره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فَلَوْلا أيها الخائضون في الإفك الذي جاءت به عصبة منكم، "إذْ سَمِعْتُمُوهُ "ممن جاء به، قلتُمْ ما يحلّ لنا أن نتكلم بهذا، وما ينبغي لنا أن نتفوّه به "سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ"، تنزيها لك يا ربّ وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء، "هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ" يقول: هذا القول بهتان عظيم.
{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: تنزيهاً لك من أن نغضبك بسماع مثل هذا القول في تصديق قائله، وهو كذب وبهتان في ظاهر الحكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالبهتان الكذب الذي فيه مكابرة تحير، يقال: بهته يبهته بهتا وبهتانا إذا حيره بالكذب عليه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
استماعُ الغيبةِ نوعٌ من الغيبة، بل مستمِعُ الغيبة شَرُّ المغتابين؛ إذ بسماعه يَتِمُّ قَصْدُ صاحِبه. وإذا سمِع المؤمنُ ما هو سوءُ قالةٍ في المسلمين -مما لا صِحَّةَ له في التحقيق- فالواجبُ الردُّ على قائله، ولا يكفي في ذلك السكوتُ دون النكير، ويجب ردُّ قائله بأحسنِ نصيحةٍ، وأدقِّ موعظةٍ..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
عتاب لجميع المؤمنين، أي: كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه السلام وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها {بهتان}، وحقيقة البهتان أَن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا تأديب آخر بعد الأول، الأمر بالظن خيرا أي: إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيرا، وألا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن عَلِق بنفسه شيء من ذلك -وسوسةً أو خيالا- فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل" أخرجاه في الصحيحين. وقال الله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أي: ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة [نبيه و] رسوله وحليلة خليله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين فحشه وشناعته، وقبحه وفظاعته، عطف على التأديب الأول في قوله {لولا إذ سمعتموه} تأديباً فقال: {ولولا إذ} أي وهلا حين {سمعتموه قلتم} أي حين السماع من غير توقف ولا تلعثم، وفصل بين آلة التحضيض والقول المحضض عليه بالظرف لأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها، وأنها لا انفكاك لها عنه، ولأن ذكره منبه على الاهتمام به لوجوب المبادرة إلى المحضض عليه: {ما يكون} أي ما ينبغي وما يصح {لنا أن نتكلم} حقيقة بالنطق ولا مجازاً بالسكوت عن الإنكار {بهذا} أي بمثله في حق أدنى الناس فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق، ثم دللتم على شدة نفرتكم منه بأن وصلتم بهذا النفي قولكم: {سبحانك} تعجباً من أن يخطر بالبال، في حال من الأحوال.
ولما كان تنزيه الله تعالى في مثل ذلك وإن كان للتعجب إشارة إلى تنزيه المقام الذي وقع فيه التعجب تنزيها عظيماً، حسن أن يوصل بذلك قوله تعليلاً للتعجب والنفي: {هذا بهتان} أي كذب يبهت من يواجه به، ويحيره لشدة ما يفعل في القوى الباطنة، لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه؛ ثم هوله بقوله: {عظيم} والمراد أن الذي ينبغي للإنسان أولاً أن لا يظن بإخوانه المؤمنين ولا يسمع فيهم إلا خيراً، فإن غلبه الشيطان وارتسم شيء من ذلك في ذهنه فلا يتكلم به، ويبادر إلى تكذيبه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، وأن تتحرج من مجرد النطق به، وأن تنكر أن يكون هذا موضوعا للحديث؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا؛ وأن تقذف بهذا الإفك بعيدا عن ذلك الجو الطاهر الكريم:
(ولولا إذ سمعتموه قلتم: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا. سبحانك! هذا بهتان عظيم)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {قلتم ما يكون لنا} أن يقولوا للذين أخبروهم بهذا الخبر الإفك. أي قلتم لهم زجراً وموعظة.
وضمير {لنا} مراد به القائلون والمخاطبون. فأما المخاطبون فلأنهم تكلموا به حين حدثوهم بخبر الإفك. والمعنى: ما يكون لكم أن تتكلموا بهذا، وأما المتكلمون فلتنزههم من أن يجري ذلك البهتان على ألسنتهم.
وإنما قال: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} دون أن يقول: ليس لنا أن نتكلم بهذا، للتنبيه على أن الكلام في هذا وكينونة الخوض فيه حقيق بالانتفاء. وذلك أن قولك: ما يكون لي أن أفعل، أشد في نفي الفعل عنك من قولك: ليس لي أن أفعل. ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116].
وهذا مسوق للتوبيخ على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ويقول ذلك لمن يجالسه ويسمعه منه. فهذا زيادة على التوبيخ على السكوت عليه في قوله تعالى: {وقالوا هذا إفك مبين} [النور: 12].
و {سبحانك} جملة إنشاء وقعت معترضة بين جملة: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} وجملة: {هذا بهتان عظيم}. و {سبحانك} مصدر وقع بدلاً من فعله، أي نسبح سبحاناً لك. وإضافته إلى ضمير الخطاب من إضافة المصدر إلى مفعوله، وهو هنا مستعار للتعجب كما تقدم عند قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [الإسراء: 1] وقوله: {وسبحان الله وما أنا من المشركين} في سورة يوسف (108). والأحسن أن يكون هنا لإعلان المتكلم البراءة من شيء بتمثيل حال نفسه بحال من يشهد الله على ما يقول فيبتدئ بخطاب الله بتعظيمه ثم بقول: {هذا بهتان عظيم} تبرّؤاً من لازم ذلك وهو مبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه.
وتوجيه الخطاب إلى الله في قوله: {سبحانك} للإشعار بأن الله غاضب على من يخوض في ذلك فعليهم أن يتوجهوا لله بالتوبة منه لمن خاضوا فيه وبالاحتراز من المشاركة فيه لمن لم يخوضوا فيه.
وجملة: {هذا بهتان عظيم} تعليل لجملة: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} فهي داخلة في توبيخ المقول لهم.
ووصف البهتان بأنه {عظيم} معناه أنه عظيم في وقوعه، أي بالغ في كنه البهتان مبلغاً قوياً.
وإنما كان عظيماً لأنه مشتمل على منكرات كثيرة وهي: الكذب، وكون الكذب يطعن في سلامة العرض، وكونه يسبب إحناً عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم بدون عذر، وكون المفترى عليهم من خيرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات، وأعظم من ذلك أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضي الله عنها.
والبهتان: الخبر الكذب الذي يُبهت السامع لأنه لا شبهة فيه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي الآية نفي للكينونة {ما يكون}، وهي أبلغ لمثل هذا القول، وأبلغ من النفي المؤكد، وأنه غير سائغ في ذاته لأمرين: أولهما: تقديس الله تعالى، لتأكيد النفي عن زوج نبيه، ومن لها مكان الاختصاص بمحبة فوق محبة غيرها من أزواجه، وهذا في معنى التعجب من أن يكون هذا الفعل وهذا القول مرددا بين المؤمنين، ولم يوقفوه حتى تفاقم الأمر، وآذى النبي، إذ وصل إلى سمعه الكريم، وأن التنزيه لله سبحانه في هذا المقام إشعار بأنه وحده المنزه، ويقال ذلك في كل موضع يتفاقم فيه الإثم.
{هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} الإشارة إلى الإفك، والبهتان: الكذب الذي تدهش له العقول وتتحير لفظاعته وغرابته، وبعده عن كل معقول، وهذا هو الكذب على زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا ما ينبغي للمؤمن إذا نقل له خبر السوء الذي لا يعقل ولا يقبل، فيجب عليه أمران.
أولهما: ألا يردده لأنه لا يليق بالكامل أن يجعله موضع أحاديثه، لأنه منكر لا يردد، وفحش لا ينطق.
الثاني: أن يسارع إلى التكذيب إذا كانت عنده أدلة التكذيب من مقام المفتري عليه بين قومه، ومقام من ينتسب إليه، وبذلك يقف الكذب، ولا يسير في وسط الجماعات، والله بعباده رءوف رحيم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لنا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا}، لأننا لا نملك أيّ أساسٍ له، فلا يكفي للإنسان أن يخوض في شؤون الناس، وأن يحرك الإشاعات التي تتحدث عنهم بالسوء، بل لا بد له من إثبات ذلك بالبيّنة الشرعية، فإذا لم نستطع منع الناس من التكلم عن الآخرين بطريقة سيئة، فلا بد لنا على الأقل عدم مشاركتهم في ما يخوضون فيه، ليرجع إلى الله قائلاً: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} في إعلان إيمانيٍّ بتعظيم الله وتنزيهه. وتنزيه الله هنا لون من ألوان الأدب القرآني الذي يعمل على تنزيه الله عند إرادة تنزيه أحدٍ، ثم التأكيد على صفة البهتان العظيم في هذا الحديث القاذف، الذي يسيء للأبرياء وللنبيّ بشكل غير مباشر، لأن القائلين لم يقدموا شيئاً لإثبات ذلك.