تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

{ 79 - 80 } { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

وهذا أيضا من مخازي المنافقين ، فكانوا -قبحهم اللّه- لا يدعون شيئا من أمور الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالا ، إلا قالوا وطعنوا بغيا وعدوانا ، فلما حثَّ اللّه ورسوله على الصدقة ، بادر المسلمون إلى ذلك ، وبذلوا من أموالهم كل على حسب حاله ، منهم المكثر ، ومنهم المقل ، فيلمزون المكثر منهم ، بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة ، وقالوا للمقل الفقير : إن اللّه غني عن صدقة هذا ، فأنزل اللّه تعالى : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } أي : يعيبون ويطعنون { الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } فيقولون : مراءون ، قصدهم الفخر والرياء .

{ و } يلمزون { الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ } فيخرجون ما استطاعوا ويقولون : اللّه غني عن صدقاتهم { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ }

. فقابلهم الله على صنيعهم بأن { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإنهم جمعوا في كلامهم هذا بين عدة محاذير .

منها : تتبعهم لأحوال المؤمنين ، وحرصهم على أن يجدوا مقالا يقولونه فيهم ، واللّه يقول : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

ومنها : طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم ، كفر باللّه تعالى وبغض للدين .

ومنها : أن اللمز محرم ، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا ، وأما اللمز في أمر الطاعة ، فأقبح وأقبح .

ومنها : أن من أطاع اللّه وتطوع بخصلة من خصال الخير ، فإن الذي ينبغي[ هو ] إعانته ، وتنشيطه على عمله ، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم ، وعابوهم عليه .

ومنها : أن حكمهم على من أنفق مالا كثيرا بأنه مراء ، غلط فاحش ، وحكم على الغيب ، ورجم بالظن ، وأي شر أكبر من هذا ؟ ! !

ومنها : أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة : " اللّه غني عن صدقة هذا " كلام مقصوده باطل ، فإن اللّه غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير ، بل وغني عن أهل السماوات والأرض ، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه ، فاللّه -وإن كان غنيا عنهم- فهم فقراء إليه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين ، ولهذا كان جزاؤهم أن سخر اللّه منهم ، ولهم عذاب أليم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

{ الذين يلمزون } ذم مرفوع أو منصوب أو بدل من الضمير في سرهم . وقرئ " يُلمِزُون " بالضم . { المُطّوعين } المتطوعين . { من المؤمنين في الصدقات } روي : أنه صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ، فجاء عبد الرحمان بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " فبارك الله له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم ، وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر فقال بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمان وعاصم إلا رياء ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات . فنزلت : { والذين لا يجدون إلا جهدهم } إلا طاقتهم . وقرئ بالفتح وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه . { فيسخرون منهم } يستهزئون بهم . { سخر الله منهم } جازاهم على سخريتهم كقوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } { ولهم عذاب أليم } على كفرهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

قوله { الذين يلمزون } رد على الضمائر في قول { يكذبون } [ التوبة : 77 ] و { ألم يعلموا } [ التوبة : 87 ] و { سرهم ونجواهم } [ التوبة : 78 ] و { يلمزون } معناه ينالون بألسنتهم ، وقرأ السبعة «يلمِزون » بكسر الميم ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وابن كثير فيما روي عنه «يلمُزون » بضم الميم ، و { المطوعين } لفظة عموم في كل متصدق ، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير دل على ذلك قوله ، عطفاً على { المطوعين } ، { والذين لا يجدون } ، ولو كان { الذين لا يجدون } قد دخلوا في { المطوعين } لما ساغ عطف الشيء على نفسه ، وهذا قول أبي علي الفارسي في قوله عز وجل : { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5797]} فإنه قال المراد بالملائكة من عدا هذين .

وكذلك قال في قوله : { فيهما فاكهة ونخل ورمان }{[5798]} وفي هذا كله نظر ، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها ، وأصل { المطوعين } المتطوعين فأبدل التاء طاء وأدغم ، وأما المتصدق بكثير الذي كان سبباً للآية فأكثر الروايات «أنه عبد الرحمن بن عوف ، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ، بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت »{[5799]} .

وقيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بنصف ماله ، وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق ، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي ، تصدق بصاع من تمر وقال : يا رسول الله جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة .

فقال المنافقون : الله غني عن صدقة هذا ، وقال بعضهم : إن الله غني عن صاع أبي عقيل{[5800]} ، وقيل : إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة ، قاله كعب بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ، وقيل بأربعمائة أوقية من فضة ، وقيل أقل من هذا .

فقال المنافقون : ما هذا إلا رياء ، فنزلت الآية في هذا كله ، وقوله : { فيسخرون } معناه يستهزئون ويستخفون ، وهو معطوف على { يلمزون } ، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله { والذين لا يجدون } ، وهذا لا يلزم ، لأن قوله { والذين } معمول للذي عمل في { المطوعين } فهو بمنزلة قوله جاءني الذي ضرب زيداً وعمراً فقتلهما ، وقوله : { سخر الله منهم } تسمية العقوبة باسم الذنب وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم ، وقوله : { ولهم عذاب أليم } معناه مؤلم ، وهي آية وعيد محض ، وقرأ جمهور «جُهدهم » بضم الجيم ، وقرأ الأعرج وجماعة معه «جَهدهم » بالفتح ، وقيل هما بمعنى واحد ، وقاله أبو عبيدة ، وقيل هما لمعنيين الضم في المال والفتح في تعب الجسم ، ونحوه عن الشعبي{[5801]} ، وقوله : { الذين يلمزون } يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره هم الذين ، ويصح أن يكون ابتداء وخبره { سخر } ، وفي { سخر } معنى الدعاء عليهم .

ويحتمل أن يكون خبراً مجرداً عن الدعاء ، ويحتمل أن يكون { الذين } صفة جارية على ما قبل كما ذكرت أول الترجمة .


[5797]:- من الآية (98) من سورة (البقرة).
[5798]:- من الآية (68) من سورة (الرحمن).
[5799]:-أخرج البزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا، فجاء عبد الرحمن فقال: يا رسول الله عندي أربعة آلاف، ألفان أقرضهما ربي، وألفان لعيالي، فقال: بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت، وجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، إني بتّ أجر الحرير فأصبت صاعين من تمر، فصاعا أقرضه ربي وصاعا لعيالي، فلمزه المنافقون، قالوا: والله ما أعطى ابن عوف الذي أعطى إلا رياء، وقالوا: أو لم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا، فأنزل الله {الذين يلمزون المطوعين} الآية. وأخرج مثله البخاري، ومسلم، وابن المنذر، وغيرهم عن ابن مسعود، ولم يذكر فيه اسم المتصدق بكثير، وذكر فيه أن المتصدق بقليل هو أبو عقيل، وأنه تصدق بنصف صاع. (الدر المنثور) و(فتح القدير).
[5800]:- أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغوي في معجمه، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة عن أبي عقيل قال: بتّ أجر الحرير على ظهري على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقرب به إلى ربي، فأخبرته بالذي كان فقال: انثره في المسجد، فسخر القوم وقالوا: لقد كان الله غنيا عن صاع هذا المسكين، فأنزل الله: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين} الآيتين. (الدر المنثور).
[5801]:- وقيل: الجهد بالفتح: المشقة، والجهد بالضم: الطاقة.