فوصل إلى ما بين السدين ، وهما سدان ، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان ، سدا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس ، وجد من دون السدين قوما ، لا يكادون يفقهون قولا ، لعجمة ألسنتهم ، واستعجام أذهانهم وقلوبهم ، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم ، وراجعهم ، وراجعوه ، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج ، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم فقالوا : { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ْ } .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك ، فيعيثون فيهم فسادًا ، ويهلكون الحرث والنسل ، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم ، عليه السلام ، كما ثبت في الصحيحين : " إن الله تعالى يقول : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك . فيقول : ابعث بَعْثَ النار . فيقول : وما بَعْثُ النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة ؟ فحينئذ يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فيقال : إن فيكم أمّتين ، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج " {[18483]} .
وقد حكى النووي{[18484]} ، رحمه الله ، في شرح " مسلم " عن بعض الناس : أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب ، فخلقوا من ذلك{[18485]} فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم ، وليسوا من حواء . وهذا قول غريب جدًا ، [ ثم ]{[18486]} لا دليل عليه لا من عقل ولا [ من ]{[18487]} نقل ، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب ، لما عندهم من الأحاديث{[18488]} المفتعلة ، والله أعلم .
وفي مسند{[18489]} الإمام أحمد ، عن سَمُرَة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وَلَدُ نوح ثلاثة : سام أبو العرب ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك " {[18490]} . قال بعض العلماء : هؤلاء من نسل يافث أبي الترك ، قال : [ إنما{[18491]} سموا هؤلاء تركًا ؛ لأنهم تركوا من وراء السد من{[18492]} هذه الجهة ، وإلا فهم أقرباء أولئك ، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة{[18493]} . وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين ، وبنائه السد ، وكيفية ما جرى له ، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم ، [ وطولهم ]{[18494]} وقصر بعضهم ، وآذانهم{[18495]} . وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح{[18496]} أسانيدها ، والله أعلم .
وقوله : { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } [ أي ]{[18497]} : لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس .
و «السدان » فيما ذكر أهل التفسير ، جبلان سدا مسالك تلك الناحية من الأرض ، وبين طرفي الجبلين فتح ، هو موضع الردم ، قال ابن عباس : الجبلان اللذان بينهما السد : أرمينية وأذربيجان ، وقالت فرقة : هما من وراء بلاد الترك ، ذكره المهدوي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله غير متحقق ، وإنما هما في طريق الأرض مما يلي المشرق ويظهر من ألفاظ التواريخ ، أنه إلى ناحية الشمال ، وأما تعيين موضع فيضعف ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم{[7895]} : «السُّدين » بضم السين ، وكذلك «سُداً » حيث وقع ، وقرأ حفص عن عاصم بفتح ذلك كله من جميع القرآن ، وهي قراءة مجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي ، وقرأ ابن كثير «السَّدين » بفتح السين وضم «سداً » في يس ، واختلف بعد فقال الخليل وسيبويه : الضم هو الاسم والفتح هو المصدر ، وقال الكسائي : الضم والفتح لغتان بمعنى واحد ، وقرأ عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم ، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح .
قال القاضي أبو محمد : ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرأ «بين السُّدين » بالضم وبعد ذلك «سَداً » بالفتح ، وهي قراءة حمزة والكسائي ، وحكى أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة ، وقال ابن أبي إسحاق : وما رأته عيناك فهو «سُد » بالضم ، وما لا يرى فهو «سَد » بالفتح ، والضمير في { دونهما } عائد على الجبلين ، أي : وجدهم في الناحية التي تلي عمارة الناس إلى المغرب ، واختلف في القوم ، فقيل : هم بشر ، وقيل جن ، والأول أصح من وجوه ، وقوله { لا يكادون يفقهون قولاً } عبارة عن بعد السانهم عن ألسنة الناس ، لكنهم فقهوا وأفهموا بالترجمة ونحوها ، وقرأ حمزة والكسائي «يُفقهون » من أفقه ، وقرأ الباقون «يَفقهون » من فقه .
السدّ بضم السين وفتحها : الجبل . ويطلق أيضاً على الجدار الفاصل ، لأنه يسد به الفضاء ، وقيل : الضم في الجبل والفتح في الحاجز .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف ، ويعقوب بضم السين وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم بفتح السين على لغة عدم التفرقة .
والمراد { بالسدين } هنا الجبلان ، وبالسد المفرد الجدار الفاصل ، والقرينة هي التي عيّنت المراد من هذا اللفظ المشترك .
وتعريف { السَّدَّيْنِ } تعريف الجنس ، أي بين سدّين معينين ، أي اتبع طريقاً آخر في غزوه حتى بلغ بين جبلين معلومين .
ويظهر أن هذا السبب اتّجه به إلى جهة غير جهتي المغرب والمشرق ، فيحتمل أنها الشمال أو الجنوب . وعينه المفسّرون أنه للشمال ، وبنوا على أن ذا القرنين هو إسكندر المقدوني ، فقالوا : إن جهة السدّين بين ( أرمينيا وأذربيجان ) . ونحن نبني على ما عيّناه في الملقب بذي القرنين ، فنقول : إن موضع السدين هو الشمال الغربي لصحراء ( قوبِي ) الفاصلة بين الصين وبلاد المغول شمال الصين وجنوب ( منغوليا ) . وقد وجد السد هنالك ولم تزل آثارهُ إلى اليوم شاهدَها الجغرافيون والسائحون وصورت صوراً شمسية في كتب الجغرافيا وكتب التاريخ العصرية .
ومعنى { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أنهم لا يعرفون شيئاً من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم ، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام .
ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم .
وقرأ الجمهور { يَفْقَهُونَ } بفتح الياء التحتية وفتح القاف أي لا يفهمون قول غيرهم . وقرأ حمزة ، والكسائي بضم الياء وكسر القاف أي لا يستطيعون إفهام غيرهم قولهم . والمعنيان متلازمان . وهذا كما في حديث الإيمان : « نسمع دويّ صوته ولا نفهم ما يقول » .
وهؤلاء القوم مجاورون ياجوج وماجوج ، وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد ياجوج وماجوج . ولم يذكر المفسرون تعيين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلهم سوى أنهم قالوا : هم في منقطع بلاد الترك نحو المشرق وكانوا قوماً صالحين فلا شك أنهم من قبائل بلاد الصين التي تتاخم بلاد المغول والتّتر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.