تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (47)

{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } والولد في العادة لا يكون إلا من مس البشر ، وهذا استغراب منها ، لا شك في قدرة الله تعالى : { قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة ، خلقه من يقول لكل أمر أراده : كن فيكون ، فمن تيقن ذلك زال عنه الاستغراب والتعجب ، ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب منه ، فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والآخر عاقر ، ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب ، وهو وجود عيسى عليه السلام من أم بلا أب ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشَأْ لم يكن .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (47)

فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك ، عن الله ، عز وجل ، قالت في مناجاتها : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج ، ولست بَغيا ؟ حاشا لله . فقال لها الملك - عن الله ، عز وجل ، في جواب هذا السؤال - : { كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : هكذا أمْرُ الله عظيم ، لا يعجزه شيء . وصرح هاهنا بقوله : { يَخْلُقُ } ولم يقل : " يفعل " كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه يخلق ؛ لئلا يبقى شبهة ، وأكد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : فلا يتأخر{[5047]} شيئًا ، بل يوجد عقيب{[5048]} الأمر بلا مهلة ، كقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] أي : إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها ، فيكون ذلك الشيء سريعًا كلمح بالبصر{[5049]} .


[5047]:في ر: "ولا تتأخر".
[5048]:في جـ، و: "عقب".
[5049]:في أ: "البصر".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (47)

وقول مريم : { ربِّ أنّى يكون لي ولد } استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها ، و{ يمسسني } ، معناه يطأ ويجامع ، والمسيس الجماع ، ومريم لم تنف مسيس الأيدي ، والإشارة بقوله : { كذلك } يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة ، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها ، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه السلام ، وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا ، { يخلق } من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة ، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه ، وروي أن عيسى عليه السلام ، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك ، وقوله تعالى : { إذا قضى } معناه إذا أراد إيجاده ، والأمر واحد الأمور وهو مصدر سمي به ، والضمير في { له } عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة ، قال مكي : وقيل المعنى يقول لأجله ، وهذا ينحو إلى ما نورده عن أبي علي بعد ، وقرأ جمهور السبعة «فيكونُ » بالرفع ، وقرأ ابن عامر وحده «فيكونَ » بالنصب ، فوجه الرفع العطف على { يقول } ، أو تقدير فهو يكون ، وأما قراءة ابن عامر فغير متجهة لأن الأمر المتقدم خطاب للمقضي وقوله : { فيكون } ، خطاب للمخبر ، فليس كقوله قم فأحسن إليك ، لكن وجهها أنه راعى الشبه اللفظي في أن تقدم في الكلام لفظ أمر كما قال أبو الحسن الأخفش في نحو قوله تعالى :

{ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة }{[3177]} إنه مجرى جواب الأمر ، وإن لم يكن جواباً في الحقيقة ، فكذلك على قراءة ابن عامر يكون قوله ، فيكون بمنزلة جواب الأمر وإن لم يكن جواباً ، وذهب أبو علي في هذه المسألة إلى أن القول فيها ليس بالمخاطبة المحضة ، وإنما هو قول مجازي كما قال :

امتلأ الحوض وقال قطني{[3178]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وغير ذلك ، قال : لأن المنتفي ليس بكائن فلا يخاطب كما لا يؤمر ، وإنما المعنى فإنما يكونه فهو يكون ، فهذه نزعة اعتزالية{[3179]} غفر الله له .


[3177]:- من الآية (31) من سورة إبراهيم.
[3178]:- هذا صدر بيت من الرجز، وعجزه: ......................... مهلا رويدا قد ملأت بطني. وهو من كلام بعض الماتحين، رأى حوضه قد امتلأ، فقال: حسبي-امتلأ حوضي، ويكفيني، يريد بذلك أن ينصرف إلى دلو غيره، وهذا مما يسمى عندهم بلسان الحال، فإن الحوض لا يتكلم. وقطني بمعنى: حسبي-والبيت في اللسان ولم ينسبه لأحد.
[3179]:- لأن المعتزلة يقولون: المعدوم منتف فلا يخاطب ولا يؤمر، والأمر عندهم هو عين الإرادة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (47)

قوله : { قالت رب } جملة معترضة ، من كلامها ، بين كلام الملائكة .

والنداء للتحسر وليس للخطاب : لأنّ الذي كلمها هو الملك ، وهي قد توجهت إلى الله .

والاستفهام في قولها { أنى يكون لي ولد } للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب بجوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها ، والثاني إذا قضى أمراً إلخ لرفع تعجّبها .

وجملة { قال كذلك الله يخلق } إلخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها } ومابعدها في سورة البقرة ( 30 ) والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي .

واسم الإشارة في قوله : { كذلك } راجع إلى معنى المذكور في قوله : { إن الله يبشرك بكلمة منه إلى قوله { وكهلا } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء . وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله : { الله يخلق } لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر .

وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يَخْلق : لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله ، فهو خلْق أنُفٌ غيرُ ناشىء عن أسباب إيجاد الناس ، فكان لفعل يخلُق هنا موقعٌ متعين ، فإنّ الصانع إذا صنع شيئاً من موادّ معتادة وصنعة معتادة ، لا يقول خلَقْت وإنما يقول صَنَعت .