يقول تعالى محذرا المنافقين أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم المكذبة . { قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } أي : قرى قوم لوط .
فكلهم { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحق الواضح الجلي ، المبين لحقائق الأشياء ، فكذبوا بها ، فجرى عليهم ما قص اللّه علينا ، فأنتم أعمالكم شبيهة بأعمالهم ، استمتعتم بخلاقكم ، أي : بنصيبكم من الدنيا فتناولتموه على وجه اللذة والشهوة معرضين عن المراد منه ، واستعنتم به على معاصي اللّه ، ولم تتعد همتكم وإرادتكم ما خولتم من النعم كما فعل الذين من قبلكم وخضتم كالذي خاضوا ، أي : وخضتم بالباطل والزور وجادلتم بالباطل لتدحضوا به الحق ، فهذه أعمالهم وعلومهم ، استمتاع بالخلاق وخوض بالباطل ، فاستحقوا من العقوبة والإهلاك ما استحق من قبلهم ممن فعلوا كفعلهم ، وأما المؤمنون فهم وإن استمتعوا بنصيبهم وما خولوا من الدنيا ، فإنه على وجه الاستعانة به على طاعة اللّه ، وأما علومهم فهي علوم الرسل ، وهي الوصول إلى اليقين في جميع المطالب العالية ، والمجادلة بالحق لإدحاض الباطل .
قوله { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } إذ أوقع بهم من عقوبته ما أوقع . { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث تجرأوا على معاصيه ، وعصوا رسلهم ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد .
يقول تعالى واعظا لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل : { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل { قَوْمِ نُوحٍ } وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض ، إلا من آمن بعبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، { وَعَادٍ } كيف أهلكوا بالريح العقيم ، لما كذبوا هودا ، عليه السلام ، { وَثَمُودَ } كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحا ، عليه السلام ، وعقروا الناقة ، { وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ } كيف نصره الله عليهم وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم ، وأهلك ملكهم النمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني لعنه الله ، { وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ } وهم قوم شعيب ، عليه السلام ، وكيف أصابتهم{[13617]} الرجفة والصيحة وعذاب يوم{[13618]} الظلة ، { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } قوم لوط ، وقد كانوا يسكنون في مدائن ، وقال في الآية الأخرى : { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } [ النجم : 53 ، ] أي : الأمة المؤتفكة ، وقيل : أم قراهم ، وهي " سدوم " . والغرض : أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطا ، عليه السلام ، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين .
{ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والدلائل القاطعات ، { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : بإهلاكه إياهم ؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق ، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار .
يقول عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت الله بتكذيب رسله فأهلكها ، { وعاد وثمود } قبيلتان ، { وقوم إبراهيم } نمرود وأصحابه وتباع دولته ، { وأصحاب مدين } قوم شعيب ، { والمؤتفكات } أهل القرى الأربعة ، وقيل السبعة الذين بعث إليهم لوط صلى الله عليه وسلم ، ومعنى { المؤتفكات } المنصرفات والمنقلبات أفكت فانتفكت لأنها جعل أعاليها أسفلها ، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع ، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان : [ البسيط ]
بمنطق مستبينٍ غيرِ مُلْتَبِسٍ*** به اللسانُ وإني غيرُ مؤتفكِ
أي غير منقلب منصرف مضطرب ومنه يقال للريح مؤتفكة لتصرفها ، ومنه { أنى يؤفكون }{[5777]} والإفك : صرف القول من الحق إلى الكذب ، والضمير في قوله { أتتهم رسلهم } عائد على هذه الأمم المذكورة ، وقيل على { المؤتفكات } خاصة ، وجعل لهم رسلاً وإنما كان نبيهم واحداً لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً ، فهم رسل رسول الله ذكره الطبري ، والتأويل الأول في عود الضمير على جميع الأمم أبين وقوله { بالبينات } يريد بالمعجزات وهي بينة في أنفسها بالإضافة إلى الحق لا بالإضافة إلى المكذبين بها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم، فقال: {ألم يأتهم نبأ}، يعني حديث {الذين من قبلهم}، يعني عذاب {قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين}، يعني قوم شعيب، {والمؤتفكات} يعني المكذبات، يعني قوم لوط القرى الأربعة، {أتتهم رسلهم بالبينات} تخبرهم أن العذاب نازل بهم في الدنيا، فكذبوهم فأهلكوا، {فما كان الله ليظلمهم}، يعني أن يعذبهم على غير ذنب،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يسرّون الكفر بالله وينهون عن الإيمان به وبرسوله "نَبأُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ "يقول: خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلنا، وخالفوا أمرنا، ماذا حلّ بهم من عقوبتنا؟ ثم بين جلّ ثناؤه من أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نبؤهم، فقال: "قَوْم نُوحٍ"...
ومعنى الكلام: ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر قوم نوح وصنيعي بهم، إذ كذّبوا رسولي نوحا وخالفوا أمري، ألم أغرقهم بالطوفان؟ "وعادٍ" يقول: وخبر عاد إذ عصوا رسولي هودا، ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية؟ وخبر ثمود إذ عصوا رسولي صالحا، ألم أهلكهم بالرجفة، فأتركهم بأفنيتهم خمودا؟ وخبر قوم إبراهيم إذ عصوه، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من الحقّ، ألم أسلبهم النعمة وأهلك ملكهم نمروذ؟ وخبر أصحاب مدين بن إبراهيم، ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة، إذ كذّبوا رسولي شعيبا؟ وخبر المنقلبة بهم أرضهم، فصار أعلاها أسفلها، إذ عصوا رسولي لوطا وكذّبوا ما جاءهم به من عندي من الحقّ.
يقول تعالى ذكره: أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزءون بالله وبآياته ورسوله، أن يسلك بهم في الانتقام منهم وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا سبيل أسلافهم من الأمم، ويحلّ بهم بتكذيبهم رسولي محمدا صلى الله عليه وسلم ما حلّ بهم في تكذيبهم رسلنا إذ أتتهم بالبينات...
وقوله: "فَمَا كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ" يقول جلّ ثناؤه: فما أهلك الله هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها واستحقاقها من الله عظيم العقاب، لا ظلما من الله لهم ولا وضعا منه جلّ ثناؤه عقوبة في غير من هو لها أهل لأن الله حكيم، لا خلل في تدبيره ولا خطأ في تقديره، ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله وتكذيبهم رسله حتى أسخطوا عليهم ربهم فحق عليهم كلمة العذاب فعذّبوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: قوله: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ) أي قد أتاهم خبر (الذين من قبلهم) وما حل بهم وما انتقم الله منهم لتكذيبهم الرسل وسعيهم في قتلهم وإهلاكم وهم من جنس أنفسكم وأشد قوة وبطشا منكم وأنتم تقلدونهم في ذلك، ثم حل بهم ما حل بتكذيبهم والخلاف لهم، فأنتم دونهم في كل شيء، وأقل منهم في القوة والبطش أولى بذلك أن يصيبكم. والثاني: يحتمل قوله: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وما حل بهم... وهو حرف وعيد، يحذرهم ما حل بأولئك ليمتنعوا عن مثل صنيعهم.
وقوله تعالى: (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ) قال أهل التأويل في قريات لوط مؤتفكات أي منقلبات. قال القتبي: ائتفكت: انقلبت، وقال أبو عوسجة: (والمؤتفكات) هي من الإفك، وهو الصرف كقوله تعالى: (أنى يؤفكون) [المائدة: 75] أي يصرفون. وقال بعضهم (والمؤتفكات) المكذبات (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ) فكذبوهم، فأهلكوا، وهو من الانقلاب كأنه أشبه. وقوله تعالى: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بتعذيبهم إياهم، وهم غير مستوجبين لذلك العذاب (وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حين كذبوا رسله، وردوا ما جاؤوهم به من البينات والبراهين...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ألم يَنْتَهِ إليهم خبرُ القرون الماضية، ونبأُ الأمم الخالية كيف دَمَّرْنا عليهم جَمْعَهُم، وكيف بَدَّدْنَا شمْلَهم؟ قَضَيْنَا فيهم بالعدْل، وحَكَمْنَا باستئصالِ الكُلِّ، فلم يَبْقَ منهم نافخُ نار، ولم يحصلوا إلاَّ على عارٍ وشنار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {والمؤتفكات} مدائن قوم لوط... وائتفاكهنّ: انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {والمؤتفكات}... والإفك: صرف القول من الحق إلى الكذب...
...واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى: {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم} وذكر هؤلاء الطوائف الستة وإنما قال ذلك لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة، بأن سمعوا هذه الأخبار من الخلق، وتارة لأجل أن بلاد هذه الطوائف، وهي بلاد الشام، قريبة من بلاد العرب، وقد بقيت آثارهم مشاهدة.
وقوله: {ألم يأتهم} وإن كان في صفة الاستفهام إلا أن المراد هو التقرير، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام. ثم قال: {أتتهم رسلهم} وهو راجع إلى كل هؤلاء الطوائف. ثم قال: {بالبينات} أي بالمعجزات ولا بد من إضمار في الكلام، والتقدير: فكذبوا فعجل الله هلاكهم. ثم قال: {فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} والمعنى: أن العذاب الذي أوصله الله إليهم ما كان ظلما من الله لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة ومبالغتهم في تكذيب أنبيائهم، بل كانوا ظلموا أنفسهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قرر سبحانه بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل، وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام، اتبع ذلك بتخويفهم من مشابهتهم فيما حل بطوائف منهم ملتفتاً إلى مقام الغيبة لأنه أوقع في الهيبة، فقال مقرراً لخسارتهم: {ألم يأتهم} أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق {نبأ الذين من قبلهم} أي خبرهم العظيم الذي هو جدير بالبحث عنه ليعمل بما يقتضيه حين عصوا رسلنا؛ ثم أبدل من ذلك قوله: {قوم نوح} أي في طول أعمارهم وامتداد آثارهم وطيب قرارهم بحسن التمتع في أرضهم وديارهم، أهلكهم بالطوفان، لم يبق من عصاتهم إنسان، وعطف على قوم القبيلة فقال؛ {وعاد} أي في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم ومصانعهم وبنيانهم وتجبرهم في عظيم سلطانهم، أهلكهم بالريح الصرصر، لم يبق ممن كفر منهم بشر {وثمود*} أي في تمكنهم من بلاد الحجر عرضها وطولها، جبالها وسهولها، أهلكوا بالرجفة لم يبق من الكفار منهم ديار {وقوم إبراهيم} أي في ملك جميع الأرض بطولها والعرض، سلب الله منهم الملك بعد شديد الهلك {وأصحاب مدين} أي في جمع الأموال ومد الآمال إلى أخذها من حرام وحلال ونقص الميزان والمكيال فعمهم الله بالنكال {والمؤتفكات} أي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم. ولما كان كأنه قيل: ما نبأهم؟ قال: {أتتهم رسلهم} أي أتى كل أمة منهم رسولها {بالبينات} أي بالمعجزات الواضحات جداً بسبب أنهم ارتكبوا من القبائح ما أوجب دمارهم {فما} أي فتسبب عن ذلك أنه {ما} {كان الله} أي مع ما له من صفات الكمال مريداً {ليظلمهم} أي لأن يفعل بهم في الإهلاك قبل الإنذار وإنارة البينات فعل من تعدونه فيما بينكم ظالماً، ولكنه أرسل إليهم الرسل فكذبوا ما أتوهم به من البينات، فصار العالم بحالهم إذا سمع بهلاكهم وبزوالهم يقول:ما ظلمهم الله {ولكن كانوا} أي دائماً في طول أعمارهم {أنفسهم} أي لا غيرها {يظلمون*} أي بفعل ما يسبب هلاكها. فإن لم ترجعوا أنتم فنحن نحذركم مثل عذابهم، ولعله خص هؤلاء بالذكر من بين بقية الأمم لما عند العرب من أخبارهم وقرب ديارهم من ديارهم مع أنهم كانوا أكثر الأمم عدداً، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء -نبه على ذلك أبو حيان. ولعله قدم أصحاب مدين على قوم لوط وهم بعدهم في الزمان لأن هذا في شأن من وصفوا بأنهم لم يجدوا ما يحميهم مما هم فيه من العذاب بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم من ملجأ أو مغارات أو مدخل كما أن من قبل المؤتفكات جمعهم هذا الوصف، فقوم نوح عليه السلام لم يمنعهم لما أتاهم الماء معقل منيع ولا جبل رفيع... وعاد لما أتتهم الريح بادروا إلى البيوت فقلعت الأبواب وصرعتهم في أجواف بيوتهم، ولم يغنهم ما كانوا يبنون من المصانع المتقنة والقصور المشيدة والحصون الممنعة، وحال ثمود معروف في توسعهم في البيوت جبالاً وسهولاً فما منعتهم من الصيحة التي أعقبت الرجفة، وقوم إبراهيم عليه السلام بنوا الصرح... فأتى الله بنيانهم من القواعد... وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، وأصحاب مدين لما أتاهم العذاب فأخذتهم الرجفة لما تغن عنهم مدينتهم، وإن كانوا هم أصحاب الأيكة فإنهم لما اشتد عليهم الحر يوم الظلة قصدوا المغارات فوجدوها أحر من وجه الأرض فخرجوا منها هاربين، فجمعتهم الظلة بنسيم بارد خيلته إليهم ولبست به عليهم، فلما اجتمعوا تحتها أحرقتهم نارها وبقي عليهم عارها، وأما قوم لوط فأتاهم الأمر بغتة، لم يشعروا حتى قلبت مدائنهم بعد أن رفعت إلى عنان السماء، واتبعت حجارة الكبريت تضطرم ناراً، ولعله خص قوم لوط بالذكر من بين من ليس له هذا الوصف لأن العرب كانوا يمرون على مواضع مدائنهم ويشاهدونها، وعبر عنهم بالمؤتفكات لأن القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب وصرف الأمور عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها، فالمعنى أن أولئك لما قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم، فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه، ومادة "إفك "بكل ترتيب تدور على القلب، فإذا كافأت الرجل فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفته عنك، وإكاف الدابة شبه بالإناء المقلوب، والكذب صرف الكلام عن وجهه فهو إفك لذلك- والله أعلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
...والمراد من ضرب هذا المثل للكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الجاحدين والمنافقين أن سنة الله في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، فلا بد أن يحل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا، كما قال: {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر} [القمر: 43]. وأما قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة هاجموهم فيها وهي غزوة بدر، ثم خذل الله من بعدهم في سائر الغزوات {وأخرج الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من ديارهم وقذف في قلوبهم الرعب} [الأحزاب:26]، {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر:2]، ثم صار الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وأما المنافقون فما زالوا يكيدون له في السر، حتى فضحهم الله تعالى بهذه السورة في آخر الأمر، فتاب أكثرهم، ومات زعيمهم عبد الله بن أبيّ بغيظه وكفره، ولم تقم للنفاق قائمة من بعده، وسيأتي في هذه السورة نبأ موته، ولو بقي لهم قوة يكيدون بها للإسلام لما خفي أمرها على المؤرخين، فكان قوم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا التمحيص خير أقوام النبيين، نشر الله تعالى بهم أعلام هذا الدين، فسادوا به جميع العالمين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويلتفت السياق من خطابهم إلى خطاب عام، كأنما يعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات؟ أتتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون.. هؤلاء (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم) ممن ساروا في نفس الطريق؟ (قوم نوح) وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب (وعاد) وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية (وثمود) وقد أخذتهم الصيحة (وقوم إبراهيم) وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم (وأصحاب مدين) وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة (والمؤتفكات) قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين.. ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين (أتتهم رسلهم بالبينات) فكذبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم: (فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)؟ إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر، وتعميها النعمة فلا تنظر. وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف، ولا تتوقف، ولا تحابي أحداً من الناس. وإن كثيراً ممن يبتليهم اللّه بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين. عندئذ تحق عليهم كلمة اللّه، وعندئذ تجري فيهم سنة اللّه، وعندئذ يأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر. وهم في نعمائهم يتقلبون، وبقوتهم يتخايلون. واللّه من ورائهم محيط إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء، نراها في كل زمان وفي كل مكان. إلا من رحم اللّه من عباده المخلصين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والاستفهام موجه للمخاطب تقريراً عنهم، بحيث يكون كالاستشهاد عليهم بأنّهم أتاهم نبأ الذين من قبلهم.
والإتيان مستعمل في بلوغ الخبر كقوله تعالى: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} وقد تقدّم في سورة العقود (41)، شُبْه حصول الخبر عند المخبَر بإتيان الشخص، بجامع الحصول بعد عدمه، ومن هذا القبيل قولهم: بلغَه الخبر، قال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} في سورة الأنعام (19).
والنبأ: الخبر وقد تقدّم في قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبإِ المرسلين} في سورة الأنعام (34).
وقوم نوح تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه} في سورة الأعراف (59).
ونوح: تقدّم ذكره عند قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً} في سورة آل عمران (33).
وعاد: تقدّم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هوداً} في سورة الأعراف (65).
وكذلك ثمود. وقوم إبراهيم هم الكلدانيون، وتقدّم الكلام على إبراهيم وعليهم عند قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} في سورة البقرة (124).
وإضافة أصحاب} إلى {مَدْيَنَ} باعتبار إطلاق اسم مَدْيَن على الأرض التي كان يقطنها بنو مدين، فكما أنّ مدين اسم للقبيلة كما في قوله تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيباً} [الأعراف: 85] كذلك هو اسم لموطن تلك القبيلة. وقد تقدّم ذكر مَدين عند قوله: {وإلى مدين أخاهم شعيباً} في الأعراف (85).
و {المؤتفكات} عطف على {أصحاب مدين}، أي نَبَأ المؤتفكات، وهو جمع مؤتفكة: اسم فاعلٍ من الائْتِفَاك وهو الانقلابُ. أي القرى التي انقلبت... وكانت في جهات الأردن حول البحر الميت، ونبأ هؤلاء مشهور معلوم، وهو خبر هلاكهم واستئصالهم بحوادث مهولة.
وجملة: {أتتهم رسلهم} تعليل أو استئناف بياني نشأ عن قوله: {نبأ الذين من قبلهم} أي أتتهم رسلهم بدلائل الصدق والحقّ.
وجملة {فما كان الله ليظلمهم} تفريع على جملة {أتتهم رسلهم}، والمفرّع هو مجموع الجملة إلى قوله: {يظلمون} لأنّ الذي تفرّع على إتيان الرسل: أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد، والمكابرة، والتكذيب للرسل، وصمّ الآذان عن الحقّ، فأخذهم الله بذلك، ولكن نُظِم الكلام على هذا الأسلوب البديع إذا ابتدئ فيه بنفي أن يكون الله ظلمهم اهتماماً بذلك لفرط التسجيل عليهم بسوء صنعهم حتّى جُعل ذلك كأنّه هو المفرّع وجعل المفرّع بحسب المعنى في صورة الاستدراك.
ونُفِي الظلم عن الله تعالى بأبلغ وجه، وهو النفي المقترن بلام الجحود، بعد فعل الكون المنفي، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} من سورة العقود (6).
وأثبت ظُلمُهم أنفُسَهم لهم بأبلغ وجه إذْ أسند إليهم بصيغة الكون الماضي، الدالّ على تمكّن الظلم منهم منذ زمان مضى، وصيغ الظلم الكائن في ذلك الزمان بصيغة المضارع للدلالة على التجدّد والتكرّر، أي على تكرير ظلمهم أنفسهم في الأزمنة الماضية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...ورغم طغيان هؤلاء وتمردهم فانّ الله الرؤوف الرحيم لم يحرم هؤلاء من رحمته وعطفه لحظة، وقد أرسل إِليهم الرسل بالآيات البينات لهدايتهم وإنقاذهم من الضلالة إِذ (أتتهم رسلهم بالبينات) إلاّ أن هؤلاء لم يصغوا إِلى آية موعظة ولم يقبلوا نصيحة من أنبياء الله وأوليائه، ولم يقيموا وزناً لجهاد ومتاعب هؤلاء الأبرار وتحملهم كل المصاعب في سبيل هداية خلق الله، وإذا كان العقاب قد نالهم فلا يعني أن الله عزّ وجلّ قد ظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم بما أجرموا فاستحقوا العذاب (فما كان الله ليظلمهم ولكن أنفسهم يظلمون)...