ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } أي : العفائف عن الفجور { الْغَافِلَاتِ } التي لم يخطر ذلك بقلوبهن { الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير .
وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا زيادة على اللعنة ، أبعدهم عن رحمته ، وأحل بهم شدة نقمته .
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات - خُرِّج مخرج الغالب - المؤمنات .
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول ، وهي عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنهما .
وقد أجمع العلماء ، رحمهم الله ، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به [ بعد هذا
الذي ذكر ]{[20945]} في هذه الآية ، فإنه كافر ؛ لأنه معاند للقرآن . وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } [ الأحزاب : 57 ]{[20946]} .
وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن خِرَاش ، عن العَوَّام ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [ قال ]{[20947]} : نزلت في عائشة خاصة .
وكذا قال [ سعيد بن جبير و ]{[20948]} مقاتل بن حيان ، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال :
حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه قال : قالت عائشة : رُميت بما رميت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك . قالت : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي{[20949]} إذ أوحي ، {[20950]} إليه . قالت : وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات ، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه ، وقال : " يا عائشة أبشري " . قالت : قلت : بحمد الله لا بحمدك . فقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } ، حتى قرأ :{[20951]} { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } [ النور : 26 ]{[20952]} .
هكذا أورده ، وليس فيه أن الحكم خاص بها ، وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها ، وإن كان الحكم يعمها كغيرها ، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله ، والله أعلم .
وقال الضحاك ، وأبو الجوزاء ، وسلمة بن نُبَيْط : المراد بها أزواج النبيّ خاصة ، دون غيرهن من النساء .
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } الآية : يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، رماهن أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب ، وباؤوا بسخط من الله ، فكان{[20953]} ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد ذلك : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تقبل ، والشهادة تُرَدّ .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن شيخ{[20954]} من بني أسد ، عن ابن عباس - قال : فسر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا } الآية - قال : في شأن عائشة ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } الآية [ النور : 4 ، 5 ] ، قال : فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال : فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه ، من حسن ما فسَّر به سورة النور{[20955]} .
فقوله : " وهي مبهمة " ، أي : عامة في تحريم قذف كل محصنة ، ولَعْنته في الدنيا والآخرة .
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا في عائشة ، ومن صنع مثل هذا أيضًا اليوم في المسلمات ، فله ما قال الله ، عز وجل ، ولكن عائشة كانت إمامَ ذلك .
وقد اختار ابن جرير عمومها ، وهو الصحيح ، ويعضد العموم{[20956]} ما رواه ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثنا عمي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن أبي الغَيث{[20957]} عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سليمان بن بلال ، به{[20958]} .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عَمْرو بن خالد الحَذَّاء الحراني ، حدثني أبي ، ( ح ) وحدثنا أبو شُعَيب الحراني ، حدثنا جدي أحمد بن أبي شُعَيب ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ليث ، عن أبي إسحاق ، عن صِلَة بن زُفَر ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة " {[20959]} .
قال سعيد بن جبير إن هذه الآية التي تضمنت لعن القاذف وتوعده الشديد إنما هي خاصة في رماة عائشة ، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما بل هذه لجميع أزواج النبي عليه السلام ، غلظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين ، فلعن قاذفهن ولم يقرن بآخر الآية توبة ع وقاذف غيرهن له اسم الفسق ، وذكرت له التوبة ، وقالت جماعة من العلماء بل هي في شأن عائشة إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة ، وقال بعض هذه الفرقة إن هذه الآية نزلت أولاً في القاذفين ، ثم نزلت بعد ذلك الآية التي صدرت في السورة التي فيها التوبة ، وقد تقدم القول في { المحصنات } ما معناه ، و «اللعنة » في هذه الآية الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم وزوالهم عن رتبة العدالة ، وعلى من قال إن هذه الآية خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أُبي وأَشباهه{[8654]} وفي ضمن رمي المحصنة رمي الرجل معها وقد يكون مؤمناً ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.