ثم يلي ذلك تقرير ما بعد الموت . فالموت ليس نهاية المطاف . إنما هو حلقة لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبرة ، التي ليس شيء منها عبثاً ولا سدى . فيوم القيامة يختصم العباد فيما كان بينهم من خلاف .
ويجيء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أمام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه ويأتونه ، ويواجهون به ما أنزل الله إليهم من الهدى .
والضمير في { إنكم } قيل هو عام فيختصم يوم القيامة المؤمنون والكافرون فيما كان من ظلم الكافرين لهم في كل موطن ظلموا فيه ، ومن هذا قول علي بن أبي طالب : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الرحمن ، فيختصم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث مع عتبه وشيبة والوليد ، ويختصم أيضاً المؤمنون بعضهم مع بعض في ظلاماتهم ، قاله أبو العالية وغيره . وقال الزبير بن العوام للنبي عليه السلام : أيكتب علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال نعم ، حتى يؤدى إلى ذي كل حق حقه . وقد قال عبد الله بن عمر لما نزلت هذه الآية : كيف نختصم ونحن أخوان ؟ فلما قتل عثمان وضرب بعضنا وجوه بعض بالسيوف ، قلنا هذا الخصام الذي وعدنا ربنا . ويختصم أيضاً على ما روي : الروح مع الجسد ، في أن يذنب كل واحد منهما صاحبه ويجعل المعصية في حيزه ، فيحكم الله تعالى بشركتهما في ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى الآية عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في معنى الشريعة وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم .
المقصود هو قوله : { إنَّكم يوم القيامةِ عندَ ربِّكُم تختصِمون } فاغتُنم هذا الغرض ليجتلب معه موعظة بما يتقدمه من الحوادث عسى أن يكون لهم بها مُعتبر ، فحصلت بهذا فوائد : منها تمهيد ذكر يوم القيامة ، ومنها التذكير بزوال هذه الحياة ، فهذان عامَّانِ للمشركين والمؤمنين ، ومنها حثّ المؤمنين على المبادرة للعمل الصالح ، ومنها إشعارهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يموت كما مات النبيئون من قبله ليغتنموا الانتفاع به في حياته ويحرصوا على ملازمة مجلسه ، ومنها أن لا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره ، ومنها تعليم المسلمين أن الله سوّى في الموت بين الخلق دون رعي لتفاضلهم في الحياة لتكثر السَّلْوة وتقل الحسرة .
فجملتا { إنَّكَ مَيّتٌ وإنَّهُم مَّيتُونَ } استئناف ، وعُطف عليهما { ثم إنَّكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } بحرف { ثمّ } الدال على الترتيب الرتبي لأن الإِنباء بالفصْل بينهم يوم القيامة أهم في هذا المقام من الإِنباء بأنهم صائرون إلى الموت .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في التعريض بالمشركين إذ كانوا يقولون : { نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] ، والمعنى : أن الموت يأتيك ويأتيهم فما يدري القائلون : { نتربص به ريب المنون } أن يكونوا يموتون قبلك ، وكذلك كان ، فقد رأى رسول الله مصارع أشدّ أعدائه في قَلِيب بدر ، قال عبد الله بن مسعود : دَعا رسول الله على أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي مُعيط وعمارة بن الوليد فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّهم رسول الله صرعى في القليب قليب بدر .
وضمير الغيبة في { وإنَّهُم مَّيّتُونَ } للمشركين المتحدث عنهم ، وأما المؤمنون فلا غرض هنا للإِخبار بأنهم ميّتون كما هو بيّن من تفسير الآية . وتأكيد الخبرين ب ( إنّ ) لتحقيق المعنى التعريضي المقصود منها .
والمراد بالميت : الصائر إلى الموت فهو من استعمال الوصف فيمن سيتصف به في المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه مثل استعمال اسم الفاعل في المستقبل كقوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] .
والميت : هو من اتصف بالموت ، أي زالت عنه الحياة ، ومثله : الميْت بتخفيف السكون على الياء ، والتحقيق أنه لا فرق بينهما خلافاً للكسائي والفراء .
وتأكيد جملة { إنَّكم يوم القيامَةِ عند ربكم تَخْتَصِمُونَ } لرد إنكار المشركين البعث . وتقديم { عِندَ ربّكُم } على { تَخْتَصِمُونَ } للاهتمام ورعاية الفاصلة .
والاختصام : كناية عن الحكم بينهم ، أي يحكم بينكم فيما اختصمتم فيه في الدنيا من اثبات المشركين آلهة وإبطالكم ذلك ، فهو كقوله تعالى : { إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [ النحل : 124 ] . ويجوز أن يكون الاختصام أطلق على حكاية ما وقع بينهم في الدنيا حين تُعرض أعمالهم ، كما يقال : هذا تخاصُم فلان وفلان ، في طالع محضر خصومة ومقاولة بينهما يُقرأ بين يدي القاضي .
ويجوز أن تصوَّر خصومة بين الفريقين يومئذٍ ليفتضح المبطلون ويبهج أهل الحق على نحو ما قال تعالى : { إن ذلك لحقُ تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] .
وعلى الوجه الأول فضمير { إنَّكُمْ } عائد إلى مجموع ما عاد إليه ضمير { إنَّكَ } و { إنَّهُم } .
وعلى الوجهين الأخيرين يجوز أن يكون الضمير كما في الوجه الأول . ويجوز أن يكون عائداً إلى جميع الأمة وهو اختصام الظلامات ، وقد ورد تأويل الضمير على هذا المعنى فيما رواه النسائي وغيره عن عبد الله بن عمر قال : « لما نزلت هذه الآية قلنا : كيف نختصم ونحن إخوان ، فلما قتل عثمان وضرب بعضُنا وَجه بعض بالسيف قلنا : هذا الخصام الذي وعدنا ربنا » . وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدْري مثل مقالة ابن عمر ولكن أبا سعيد قال : « فلما كان يوم صّفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هو ذا » . وسواء شملت الآية هذه المحامل وهو الأليق ، أو لم تشملها فالمقصود الأصلي منها هو تخاصم أهل الإِيمان وأهل الشرك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم إنكم يوم القيامة} أنت يا محمد وكفار مكة يوم القيامة {عند ربكم تختصمون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم إن جميعكم المؤمنين والكافرين يوم القيامة عند ربكم تختصمون، فيأخذ للمظلوم منكم من الظالم، ويفصل بين جميعكم بالحقّ. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عنى به اختصام المؤمنين والكافرين، واختصام المظلوم والظالم... وقال آخرون: بل عُني بذلك اختصام أهل الإسلام...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: عُني بذلك: إنك يا محمد ستموت، وإنكم أيها الناس ستموتون ثم إن جميعكم أيها الناس تختصمون عند ربكم، مؤمنكم وكافركم، ومحقوكم ومبطلوكم، وظالموكم ومظلوموكم، حتى يؤخذ لكلّ منكم، ممن لصاحبه قبله حق حقّه. وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب؛ لأن الله عمّ بقوله:"ثُمّ إنّكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" خطاب جميع عباده، فلم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض، فذلك على عمومه على ما عمه الله به، وقد تنزل الآية في معنى، ثم يكون داخلاً في حكمها كلّ ما كان في معنى ما نزلت به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَخْتَصِمُونَ} فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: أطعنا سادتنا وكبراءنا، وتقول السادات: أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون؛ وقد حمل على اختصام الجميع وأنّ الكفار يخاصم بعضهم بعضاً، حتى يقال لهم: {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيّ} [ق: 28] والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الشفاء الكامل إنما يكون بأخذ الثأر وإذلال الظالم، قال مشيراً بأداة التراخي إلى مدة البرزخ، مؤكداً لأجل إنكارهم البعث فضلاً عن القصاص صادعاً لهم بالخطاب بعد الغيبة: {ثم إنكم} أي أيها العباد كلكم، فإن كل أحد مسؤول عن نفسه وعن غيره هل راعى حق الله فيه، أو أنت وهم من باب تغليب المخاطب وإن كان واحداً لعظمته على الغائبين، وزاد في إثبات المعنى بقوله: {يوم القيامة} فساقه مساق ما لا خلاف فيه، وبين أن ذلك الحال مخالف لهذا الحال لانقطاع الأسباب بقوله صارفاً القول إلى وصف التربية الذي يحق له الفضل على الطائع والعدل في العاصي.
{عند ربكم} أي المربي لكم بالخلق والرزق، فلا يجوز في الحكمة أن يدعكم يبغي بعضكم على بعض كما هو مشاهد من غير حساب، كما أن أقلكم عقلاً لا يرضى بذلك في عبيده الذين ملكه الله إياهم ملكاً ضعيفاً، أو ولاه عليهم ولاية مزلزلة، فكيف بمن فوقه فكيف بالحكماء.
{تختصمون} أي تبالغون في الخصومة ليأخذ بيد المظلوم وينتقم له من الظالم، ويجازي كلاًّ بما عمل، أما في الشر فسوءاً بسوء، لا يظلم مثقال ذرة ولا ما دونه، وأما في الخير فالحسنة بعشرة أمثالها -إلى ما فوق ذلك مما لا يعلمه غيره، فلا ينبغي أبداً لمظلوم أن يتوهم دوام نكده وعدم الأخذ بيده، فيقتصر في العمل ويجنح إلى شيء من الخوف والوجل، بل عليه أن يفرح بما يجزل ثوابه، ويسر بما ييسر حسابه، ويشتغل بما يخلص به نفسه في يوم التلاق الذي الناس فيه فريقان، ولا يشتغل بما لا يكون من تصفية دار الكدر عن الأكدار، وقرارة الدنس عن الأقذاء والأقذار، فإن الدوام فيها محال على حال من الأحوال.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يلي ذلك تقرير ما بعد الموت، فالموت ليس نهاية المطاف. إنما هو حلقة لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبرة، التي ليس شيء منها عبثاً ولا سدى. فيوم القيامة يختصم العباد فيما كان بينهم من خلاف. ويجيء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أمام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه ويأتونه، ويواجهون به ما أنزل الله إليهم من الهدى...