وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ منه أقصاه وأتعب قلبه وقواه ، فلما دعي إلى مغادرة المعبد ، قلب نظره إلى السماء ، وقال : ( إني
سقيم ) . . لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات . فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع ، أخلياء القلوب من الهم والضيق - وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح .
قال ذلك معبراً عن ضيقه وتعبه . وأفصح عنه ليتركوه وشأنه . ولم يكن هذا كذباً منه . إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم . وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه !
واختلف أيضاً في قوله { إني سقيم } ، فقالت فرقة هي كذبة في ذات الله تعالى أخبرهم عن نفسه أنه مريض وأن الكوكب أعطاه ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون ولذلك تولوا { مدبرين } أي فارين منه ، وقال بعضهم بل تولوا { مدبرين } لكفرهم واحتقارهم لأمره .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل في أنها كذبة يجيء الحديث لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات : قوله { إني سقيم } ، وقوله { بل فعله كبيرهم }{[9873]} [ الأنبياء : 63 ] وقوله في سارة هي أختي{[9874]} .
وقالت فرقة : ليست بكذبة ولا يجوز الكذب عليه ولكنها من المعاريض أخبرهم بأنه سقيم في المثال وعلى عرف ابن آدم لا بد أن يسقم ضرورة ، وقيل أراد على هذا { إني سقيم } النفس أي من أموركم وكفركم فظهر لهم من كلامه أنه أراد سقماً بالجسد حاضراً وهكذا هي المعاريض .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل لا يرده الحديث وذكر الكذبات لأنه قد يقال لها كذب على الاتساع بحسب اعتقاد المخبر ، والكذب الذي هو قصد قول الباطل ، والإخبار بضد ما في النفس بغير منفعة شرعية ، هو الذي لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم .
والمعنى : ففكر في حيلة يخلو له بها بدّ أصنامهم فقال : { إني سقيمٌ } ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدّهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل . والوجه : أن التعقيب الذي أفادته الفاء من قوله : { فنظَرَ } تعقيب عرفي ، أي لكل شيء نحسبه فيفيد كلاماً مطوياً يشير إلى قصة إبراهيم التي قال فيها : { إني سقيم } والتي تفرع عليها قوله تعالى : { فراغ إلى أهله } [ الذاريات : 26 ] الخ .
وتقييد النظرة بصيغة المرة في قوله : { نظرةً } إيماء إلى أن الله ألهمه المكيدة وأرشده إلى الحجة كما قال تعالى : { ولقد آتينا إبراهيم رشده } [ الأنبياء : 51 ] .
وقوله : { إني سقيمٌ } عذر انتحله ليتركوه فيخلو ببيت الأصنام ليخلص إليها عن كثب فلا يجد من يدفعه عن الإيقاع بها . وليس في القرآن ولا في السنة بيان لهذا لأنه غني عن البيان . وذكر المفسرون أنه اعتذر عن خروجه مع قومه من المدينة في يوم عيد يخرجون فيه فزعم أنه مريض لا يستطيع الخروج فافترض إبراهيم خروجهم ليخلو ببدّ الأصنام وهو الملائم لقوله : { فتولوا عنه مُدبرينَ } .
والسقيم : صفة مشبهة وهو المريض كما تقدم في قوله : { بقلبٍ سليمٍ } [ الصافات : 84 ] . يقال : سَقِم بوزن مرِض ، ومصدره السَّقم بالتحريك ، فيقال : سقام وسقم بوزن قُفْل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.