{ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ْ } أي : جحدوا الآيات القرآنية والآيات العيانية ، الدالة على وجوب الإيمان به ، وملائكته ، ورسله ، وكتبه ، واليوم الآخر .
{ فَحَبِطَتْ ْ } بسبب ذلك { أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ْ } لأن الوزن فائدته ، مقابلة الحسنات بالسيئات ، والنظر في الراجح منها والمرجوح ، وهؤلاء لا حسنات لهم لعدم شرطها ، وهو الإيمان ، كما قال تعالى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ْ } لكن تعد أعمالهم وتحصى ، ويقررون بها ، ويخزون بها على رءوس الأشهاد ، ثم يعذبون عليها ، ولهذا قال : { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ ْ }
وعندما يبلغ من استتارة التطلع والانتظار إلى هذا الحد يكشف عنهم فإذا هم :
( أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم ) . .
وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سام من الكلأ ثم تلقى حتفها . . وهو أنسب شيء لوصف الأعمال . . إنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة . . ثم تنتهي إلى البوار !
( أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم ) . . ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) . .
فهم مهملون ، لا قيمة لهم ولا وزن في ميزان القيم الصحيحة ( يوم القيامة ) .
{ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم } بالقرآن أو بدلائله المنصوبة على التوحيد والنبوة . { ولقائه } بالبعث على ما هو عليه أو لقاء عذابه . { فحبطت أعمالهم } بكفرهم فلا يثابون عليها . { فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنا } فنزدري بهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا ، أو لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم لانحباطها .
جملة هي استئناف بياني بعد قوله { هل ننبئكم } .
وجيء باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز لئلا يلتبسوا بغيرهم على نحو قوله تعالى : { أولئك هم المفلحون } [ البقرة : 5 ] .
وللتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من حكم بسبب ما أجري عليهم من الأوصاف .
وقوله : { ربّهم } يجري على الوجه الأول في نون { هل ننبئكم } أنه إظهار في مقام الإضمار . ومقتضى الظاهر أن يقال : أولئك الذين كفروا بآياتنا ، ويجري على الوجهين الثاني والثالث أنه على مقتضى الظاهر .
ونون { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } على الوجه الأول في نون { قل هل ننبئكم } جارية على مقتضى الظاهر .
وأما على الوجهين الثالث والرابع فإنها التفات عن قوله { بآيات ربّهم ، } ومقتضى الظاهر أن يقال : فلا يقيم لهم .
ونفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشيء ، وفي حقارته لأن الناس يزنون الأشياء المتنافس في مقاديرها والشيء التافه لا يوزن ، فشبهوا بالمحقرات على طريقة المكنية وأثبت لهم عدم الوزن تخييلاً .
وجُعل عدم إقامة الوزن مفرعاً على حبط أعمالهم لأنهم بحبط أعمالهم صاروا محقرين لا شيء لهم من الصالحات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم}، يعني: القرآن،
{ولقائه}، يعني: بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال،
{فحبطت أعمالهم}، يعني: فبطلت أعمالهم الحسنة، فلا تقبل منهم لأنها كانت في غير إيمان،
{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}، من خير، قدر مثقال جناح بعوضة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم، الأخسرون أعمالاً، الذين كفروا بحُجج ربهم وأدلته، وأنكروا لقاءه "فَحَبِطَتْ أعمالهُمْ "يقول: فبطلت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها في الآخرة، بل لهم منها عذاب وخِزي طويل، "فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَزْنا" يقول تعالى ذكره: فلا نجعل لهم ثقلاً، وإنما عنى بذلك: أنهم لا تثقل بهم موازينهم، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة، وليس لهؤلاء شيء من الأعمال الصالحة، فتثقل به موازينهم... حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن الصلت، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بالأَكُولِ الشّرُوب الطّوِيلِ، فَيُوزَنُ فَلا يَزِنُ جَناحَ بَعُوضَةٍ» ثم قرأ "فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَزْنا".
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{... فَلاَ نُقِيمُ لهُمْ يَوْمَ الْقيَامَةِ وَزْناً} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لهوانهم على الله تعالى بمعاصيهم التي ارتكبوها يصيرون محقورين لا وزن لهم.
الثاني: أنهم لخفتهم بالجهل وطيشهم بالسفه صاروا كمن لا وزن لهم.
الثالث: أن المعاصي تذهب بوزنهم حتى لا يوازنوا من خفتهم شيئاً...
الرابع: أن حسناتهم تُحبَط بالكفر فتبقى سيئاتهم، فيكون الوزن عليهم لا لهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}... وفي معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إنما يثقل الميزان بالطاعة، وإنما توزن الحسنات والسيئات، والكافر لا طاعة له.
والثاني: أن المعنى: لا نقيم لهم قدرا. قال ابن الأعرابي في تفسير هذه الآية: يقال: ما لفلان عندنا وزن، أي: قدر، لخسته. فالمعنى: أنهم لا يعتد بهم، ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة...
والثالث: أنه قال:"فلا نقيم لهم" لأن الوزن عليهم لا لهم، ذكره ابن الأنباري.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولَمّا كانوا يُنْكِرون أنهم على ذلك، لِمُلازَمَتِهم لكثيرٍ من مَحاسنِ الأعمال، البعيدةِ عن الضَّلال، بَيَّنَ لهم السببَ في بُطلان سَعْيِهم بقوله: {أولئك} أي البُعَداءُ البُغَضاءُ {الَّذِينَ كَفَرُوا} أي أَوْقَعوا السَّتْرَ والتّغْطِيَةَ لِمَا مِن حقِّه أن يُظْهَرَ ويُشْهَرَ، مُستهينِين {بآياتِ رَبِّهم} مِن كلامه وأفعالِه، وبَيَّنَ سببَ هذا الكفرِ بقوله: {ولِقائِه} أي فصاروا لا يَخافون فلا يَرُدُّهم شيءٌ عن أهوائهم.. {فَحَبِطَتْ} أي سَقَطَتْ... {أعمالُهم}... {فلا} أي فتَسَبَّبَ عن سُقوطِها أنَّا لا {نُقِيمُ لهم} ما لَنَا مِن الكِبْرِياءِ والعَظَمةِ المانِعَيْنِ مِن اعتراضِ أحدٍ علينا أو شفاعتِه بغيرِ إذْنِنا لدينا {يَوْمَ القِيامةِ وَزْناً} أي لا نَعْتَبِرُهم لكونِهم جَهِلُوا أمْرَنا الذي لا شيءٍ أَظْهَرَ منه، وأمنوا مَكْرَنا ولا شيءَ أَخْطَرُ منه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سام من الكلأ ثم تلقى حتفها.. وهو أنسب شيء لوصف الأعمال.. إنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة.. ثم تنتهي إلى البوار!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجِيءَ باسم الإشارةِ لتَمْييزهم أَكْمَلَ تمييزٍ لئلا يَلتَبِسوا بغيرهم... وللتّنبيه على أن المُشارَ إليهم أَحْرِيَاءُ بما بعدَ اسمِ الإشارة مِن حُكْمٍ بسبب ما أُجْرِيَ عليهم من الأوصاف...
{فلا نُقِيمُ لهم يومَ القِيَامةِ وَزْناً}... ونَفْيُ إقامةِ الوزنِ مستعمَلٌ في عدم الاعتداد بالشيء، وفي حَقارتِه لأن الناس يَزِنون الأشياءَ المُتنافَسَ في مقاديرها والشيءُ التّافهُ لا يوزَن، فشُبِّهوا بالمُحَقَّرات على طريقةِ المَكْنِيّة وأثبت لهم عدم الوزن تخييلاً...
{كفروا بآيات ربهم "105 "} (سورة الكهف): والآيات تطلق ثلاثة إطلاقات، وقد كفروا بها جميعاً وكذبوا، كفروا بآيات الكون الدالة على قدرة الله، فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها، وكفروا بآيات الأحكام والقرآن والبلاغ من رسول الله، وكذلك كفروا بآيات المعجزات التي أنزلها الله لتأييد الرسل فلم يصدقوها. إذن: كلمة: {كفروا بآيات ربهم}: هنا عامة في كل هذه الأنواع. (ولقائه) أي: وكفروا أيضاً بلقاء الله يوم القيامة، وكذبوا به، فمنهم من أنكره كلية فقال: {أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون "82 "} (سورة المؤمنون). ومنهم من اعترف ببعث على هواه، فقال: {ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً "36 "} (سورة الكهف). ومن من قال: إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلاماً طويلاً، إذن: إما ينكرون البعث، وإما يصورونه بصورة ليست هي الحقيقة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأنهم لا يَمْلِكون أيّةَ قيمةٍ حقيقيةٍ ٍفي ما تَعْنيه القيمةُ التي تعطي للإنسان وزنَه عند الله، من القاعدة الروحيّةِ الإيمانيّةِ المنفتِحةِ على الحقيقة، مِن موقع الإشراق والوضوح، لأن الوزن الذي قد يتحرَّك من حالة الثِّقَل الظاهريِّ، لا ينطلق من ثِقَلٍ حقيقيٍّ في المضمون، بل من انتفاخٍ لا يَحمِل في داخله إلا الهواءَ، وذلك لِمَا يُمَثِّله الباطلُ من حالةِ انعدامٍ في الوزن...