الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا} (105)

قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } إلى قوله : { وزنا } فيه مسألتان :

الأولى- قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } –الآية- فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه ، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة ، والمراد هنا الكفر . روى البخاري عن مصعب قال : سألت أبي " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " أهم الحرورية ؟ قال : لا ، هم اليهود والنصارى . وأما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة ، فقالوا : لا طعام فيها ولا شراب ، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، وكان سعد يسميهم الفاسقين . والآية معناها التوبيخ ، أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري : يخيب سعيهم وآمالهم غدا ، فهم الأخسرون أعمالا ، وهم " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " في عبادة من سواي . قال ابن عباس : ( يريد كفار أهل مكة ) . وقال علي :( هم الخوارج أهل حروراء . وقال مرة : هم الرهبان أصحاب الصوامع ) . وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له : أنت وأصحابك . قال ابن عطية : ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك : " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم " وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور ، وإنما هذه صفة مشركي مكة{[10750]} عبدة الأوثان ، وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه{[10751]} الآية . و " أعمالا " نصب على التمييز . و " حبطت " قراءة الجمهور بكسر الباء . وقرأ ابن عباس " حبطت " بفتحها{[10752]} .

الثانية-قوله تعالى : " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " قراءة الجمهور " نقيم " بنون والعظمة . وقرأ مجاهد بياء الغائب ، يريد فلا يقيم الله عز وجل ، وقرأ عبيد بن عمير " فلا يقوم " ويلزمه أن يقرأ " وزن " وكذلك قرأ مجاهد " فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن " . قال عبيد بن عمير : يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة .

قلت : هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ، وقد ثبت معناه مرفوعا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم ( فلا نقيم له يوم القيامة وزنا ) . والمعنى أنهم لا ثواب لهم ، وأعمالهم مقابلة بالعذاب ، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار . وقال أبو سعيد الخدري : يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا . وقيل : يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة ، كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ{[10753]} ، والله أعلم . وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه ، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم ، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن . وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين ) ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن ) وهذا ذم . وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره ، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها ، فهو عبد نفسه لا عبد ربه ، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام ، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به ، وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال : " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم " {[10754]} [ محمد : 12 ] فإذا كان المؤمن يتشبه بهم ، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه ، فأين حقيقة الإيمان ، والقيام بوظائف الإسلام ؟ ! ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه ، وزاد بالليل كسله ونومه ، فكان نهاره هائما ، وليله نائما . وقد مضى في " الأعراف " {[10755]} هذا المعنى ، وتقدم فيها ذكر الميزان{[10756]} ، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة . وقال عليه الصلاة والسلام حين ضحكوا من حمش{[10757]} ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة : ( تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض ) فدل هذا على أن الأشخاص توزن ، ذكره الغزنوي .


[10750]:في جـ: العرب.
[10751]:في ك وي: من صدر الآية.
[10752]:في جـ: بفتح الباء.
[10753]:في ك: يوم القيامة.
[10754]:راجع جـ 16 ص 234.
[10755]:راجع جـ 7 ص 191 فما بعد وص 165.
[10756]:راجع جـ 7 ص 191 فما بعد وص 165.
[10757]:حمش الساق: دقيقها.