اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا} (105)

قوله تعالى : { أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } .

لقاء الله عبارة عن رؤيته ؛ لأنَّه يقال : لقيتُ فلاناً ، أي : رأيته .

فإن قيل : اللُّقيا عبارةٌ عن الوصول ؛ قال الله تعالى : { فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] .

وذلك في حقِّ الله محالٌ ؛ فوجب حمله على ثواب الله .

فالجواب : أن لفظ اللقاء ، وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول{[21351]} إلاَّ أنَّ استعماله في الرؤية مجازٌ ظاهرٌ مشهورٌ ، ومن قال بأنَّ المراد منه : لقاء ثواب الله ، فذلك لا يتمُّ إلا بالإضمار ، وحمل اللفظ على المجاز المتعارفِ المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار .

واستدلَّت المعتزلة بقوله تعالى : { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } على أن الإحباط حقٌّ ، وقد تقدَّم ذلك في البقرة وقرأ ابن عباس{[21352]} " فَحبَطَتْ " بفتح الباء والعامة بكسرها .

قوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } .

قرأ العامة " نُقِيمُ " بنون العظمة ، من " أقَامَ " ومجاهدٌ وعبيد بن عميرٍ : " فَلا يُقِيمُ " بياءِ الغيبة ، لتقدُّم قوله : " بآيَاتِ ربِّهِمْ " فالضمير يعود عليه ، ومجاهدٌ أيضاً " فلا يقُومُ لَهُمْ " مضارع " قَامَ " متعدٍّ ، كذا قال أبو حيَّان ، والأحسن من هذا : أن تعرب هذه القراءة على ما قاله أبو البقاء{[21353]} : أن يجعل فاعل " يَقومُ " " صنيعُهمْ " أو " سَعْيهُم " وينتصب حينئذٍ " وزْناً " على أحد وجهين : إمَّا على الحال ، وإمَّا على التَّمييز .

فصل في معنى الآية

المعنى : أنَّا نزدري بهم ، وليس لهم عندنا وزنٌ ومقدارٌ ، تقول العرب : ما لفلانٍ عندي وزنٌ ، أي : قدرٌ ؛ لخسَّتهِ ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّهُ ليَأتِي يَومَ القيامةِ الرَّجلُ العَظيمُ السَّمينُ ، فلا يَزنُ عند الله جَناحَ بَعُوضةٍ " قال : " اقرءوا : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " .

وقيل : المعنى : فلا نقيم لهم يوم القيامة ميزانا ؛ لأن الميزان إنما يوضع ؛ لأجل الحسنات والسيئات من الموحدين ؛ لتمييز مقدار الطاعات ، ومقدار السيئات .

قال أبو سعيد الخدري{[21354]} : يأتي ناس بأعمال يوم القيامة من عندهم في التعظيم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها ، لم تزن شيئا ، فذلك قوله : { فلا نقيم يوم القيامة وزنا } .

وقال القاضي{[21355]} : إن من غلبت معاصيه ، صارت طاعاته{[21356]} كأن لم تكن ، فلم يدخل في الوزن شيء من طاعته ، وهذا التفسير بناه على قول الإحباط والتكفير .

قوله : { ذلك جزاؤهم جهنم } : فيه أوجه كثيرة :

الأول : أن يكون " ذلك " خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك والمعنى : الذي ذكرتُ من حبوط أعمالهم وخسَّة أقدارهم و " جزاؤهم جهنم " جملة برأسها .

الثاني : أن يكون " ذلك " مبتدأ أول ، وجزاؤهم " مبتدأ ثان ، و " جهنم " خبره ، و هو [ وخبره " ] خبر الأول ، والعائد محذوف ، أي : جزاؤهم به ، كذا قال أبو البقاء{[21357]} . ، فالهاء في " به " تعود على " ذلك " و " ذلك " مشار به إلى عدم إقامة الوزن .

قال أبو حيان : " ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر " قال شهاب الدين : إن عنى النظر من حيث الصناعة ، فمسلَّم ، ووجه النظر : أن العائد حذف من غير مسوغ إلا بتكلف ؛ فإن العائد على المبتدأ ، إذا كان مجرورا ، لا يحذف إلا إذا جر بحرف تبعيض ، أو ظرفية ، أو يجر عائدا جر قبله بحرف ، جر به المحذوف ، كقوله : [ الطويل ] .

أصخ فالذي تدعى به أنت مفلح . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[21358]}

أي : مفلح به ، وإن عنى من حيث المعنى ، فهو معنى جيد .

الثالث : أن يكون " ذلك " مبتدأ ، و " جزاؤهم " بدل ، أو بيان ، و " جهنم " خبره .

الرابع : أن يكون " ذلك " مبتدأ أيضا ، و " جزاؤهم " خبره ، و " جهنم " بدل ، أو بيان ، أو خبر ابتداء مضمر .

الخامس : أن يجعل " ذلك " مبتدأ ، و " جزاؤهم " بدل ، أو بيان ، و " جهنم " خبر ابتداء مضمر ، و " بما كفروا " خبر الأول ، والجملة اعتراض .

السادس : أن يكون " ذلك " مبتدأ ، والجار : الخبر ، و " جزاؤهم جهنم " جملة معترضة ، وفيه بعدٌ .

السابع : أن يكون " ذلك " إشارة إلى جماعة ، وهم مذكورون في قوله : " بالأخسرين " ، وأشير إلى الجمع ؛ كإشارة الواحد ؛ كأنه قيل : أولئك جزاؤهم جهنم ، والإعراب المتقدم يعود على هذا التقدير .

ومعنى الكلام : أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين : كفرهم ، واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا ، فلم يقتصروا على الرد عليهم وتكذيبهم ، حتى استهزؤوا بهم .

قوله : " واتخذوا " فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على " كفروا " فيكون محله الرفع ، لعطفه على خبر " إن " .

الثاني : أنه مستأنف ، فلا محل له ، والباء في قوله : " بما كفروا " لا يجوز تعلقها ب " جزاؤهم " للفصل بين المصدر ومعموله .


[21351]:ينظر : الفخر الرازي 21/148.
[21352]:ينظر في قراءاتها: الشواذ 8، والكشاف 2/249، والقرطبي 11/45، والبحر 6/158، والدر المصون 4/485.
[21353]:ينظر: الإملاء 2/109.
[21354]:ينظر: معالم التنزيل 3/186.
[21355]:ينظر : الفخر الرازي 21/148.
[21356]:في ب: ما فعله من الطاعات.
[21357]:ينظر: الإملاء 2/109.
[21358]:ينظر البيت في روح المعاني 16/45، حاشية الشهاب 6/136، الدر المصون 4/486.