{ فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي : إبراهيم وابنه إسماعيل ، جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده ، امتثالا لأمر ربه ، وخوفا من عقابه ، والابن قد وطَّن نفسه على الصبر ، وهانت عليه في طاعة ربه ، ورضا والده ، { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي : تل إبراهيم إسماعيل على جبينه ، ليضجعه فيذبحه ، وقد انكب لوجهه ، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه .
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام . . يخطو إلى التنفيذ :
( فلما أسلما وتله للجبين ) . .
ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة . وعظمة الإيمان . وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان . .
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً . وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً . وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً .
لقد أسلما فهذا هو الإسلام . هذا هو الإسلام في حقيقته . ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم . . وتنفيذ . . وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم .
إنها ليست الشجاعة والجراءة . وليس الاندفاع والحماسة . لقد يندفع المجاهد في الميدان ، يقتل و يقتل . ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود . ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر . . ليس هنا دم فائر ، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص ! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد ، العارف بما يفعل ، المطمئن لما يكون . لا بل هنا الرضى الهادى ء المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل !
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا . كان قد أسلما . كانا قد حققا الأمر والتكليف . ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل ، ويسيل دمه ، وتزهق روحه . . وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله ، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما . .
كان الابتلاء قد تم . والامتحان قد وقع . ونتائجه قد ظهرت . وغاياته قد تحققت . ولم يعد إلا الألم البدني . والإ الدم المسفوح . والجسد الذبيح . والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء . ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء . ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا ، وقد حققوا التكليف ، وقد جازوا الامتحان بنجاح .
{ فلما أسلما } استسلما لأمر الله أو سلما الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه ، وقد قرئ بهما وأصلها سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه . { وتله للجبين } صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة . وقيل كبه على وجهه بإشارته لئلا يرى فيه تغيرا يرق له فلا يذبحه ، وكان ذلك عند الصخرة بمنى أو في الموضع المشرف على مسجده ، أو المنحر الذي ينحر فيه اليوم .
قرأ جمهور الناس «أسلما » أي أنفسهما واستسلما لله تعالى ، وقرأ علي وعبد الله وابن عباس ومجاهد والثوري «سلما » والمعنى فوضا إليه في قضائه وقدره وانحملا على أمره ، فأسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه واختلف النحاة في جواب { لما } ، فقال الكوفيون الجواب { ناديناه } ، والواو زائدة ، وقالت فرقة الجواب { وتله } والواو زائدة كزيادتها في قوله : { وفتحت السماء }{[9879]} [ النبأ : 19 ] وقال البصريون : الجواب محذوف تقديره «فلما أسلم وتله » ، وهذا قول الخليل وسيبويه ، وهو عندهم كقول امرىء القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى . . . بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل{[9880]}
التقدير فلما أجزنا ساحة الحي أجزنا وانتحى ، وقال بعض البصريين : الجواب محذوف وتقديره { فلما أسلما وتله للجبين } أجزل أجرهما أو نحو هذا مما يقتضيه المعنى ، { وتله } وضعه بقوة ومنه الحديث في القدح ، فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده{[9881]} أي وضعه بقوة ، والتل من الأرض مأخوذ من هذه كأنه تل في ذلك الموضع ، و { للجبين } معناه لتلك الجهة وعليها وكما يقولون في المثل لليدين والفم وكما تقول سقط لشقه الأيسر ، وقال ساعدة بن جوبة :
وظل تليلاً للجبين والجبينان{[9882]}
وروي في قصص هذه الآية أن الذبيح قال لأبيه اشدد رباطي بالحبل لئلا أضطرب واصرف بصرك عني ، لئلا ترحمني ورد وجهي نحو الأرض ، قال قتادة كبه لفيه وأخذ الشفرة ، والتل للجبين ليس يقتضي أن الوجه نحو الأرض بل هي هيئة من ذبح للقبلة على جنبه ،
{ أسْلَمَا } استسلما . يقال : سلَّم واستسلم وأسلم بمعنى : انقاد وخضع ، وحذف المتعلِّق لظهوره من السياق ، أي أسلما لأمر الله فاستسلام إبراهيم بالتهيُّؤ لذبح ابنه ، واستسلام الغلام بطاعة أبيه فيما بلغه عن ربه .
و { تلّه } : صرعه على الأرض ، وهو فعل مشتق من اسم التلّ وهو الصبرة من التراب كالكُدْية ، وأما قوله في حديث الشُّرْب « فتلّه في يده » أي القَدح ، فذلك على تشبيه شدة التمكين كأنه ألقاه في يده .
واللام في { لِلجَبِينِ } بمعنى ( على ) كقوله : { يخرون للأذقان سجداً } [ الإسراء : 107 ] ، وقوله تعالى : { دعانا لجنبه } [ يونس : 12 ] ، ومعناها أن مدخولها هو أسفل جزء من صاحبه .
والجبين : أحد جانبي الجبهة ، وللجبهة جبينان ، وليس الجبين هو الجبهة ولهذا خَطَّأوُا المتنبي في قوله :
وَخَلِّ زِيّاً لمن يُحقِّقه *** ما كُل دَاممٍ جبينُه عَابِدْ
وتبع المتنبيَ إطلاقُ العامة وهو خطأ ، وقد نبه على ذلك ابن قتيبة في « أدب الكتاب » ولم يتعقبه ابن السيِّد البطليوسي في « الاقتضاب » ولكن الحريري لم يعدّه في « أوهام الخواصّ » فلعله أن يكون غفل عنه ، وذكر مرتضَى في « تاج العروس » عن شيخه تصحيح إطلاق الجبين على الجبهة مجازاً بعلاقة المجاورة ، وأنشد قول زهير :
يَقيني بالجبين ومنكبيه *** وأدْفعه بمُطَّرد الكعوب
وزعم أن شارح ديوان زهير ذكر ذلك . وهذا لا يصح استعماله إلا عند قيام القرينة لأن المجاز إذا لم يكثر لا يستحق أن يعد في معاني الكلمة على أنا لا نسلم أن زهيراً أراد من الجبين الجبهة . ولم يذكر هذا في الأساس .
والمعنى : أنه ألقاه على الأرض على جانب بحيث يباشر جبينه الأرض من شدة الاتصال .