اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ} (103)

قوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا } في جوابها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه محذوف أي ذَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ أو ظَهَرَ صَبْرُهُمَا ، أو أجزلنا لهما أجرهما{[47304]} وقدره بعضهم : بعد الرؤيا ؛ أي كان ما كان مما يَنْطِقُ به الحال والوصف مما لا يدرك كُنْهُهُ{[47305]} ، ونقل ابن عطية : أن التقدير فَلَما أسْلَمَا أسْلَمَا{[47306]} وَتَلَّهُ كقوله :

4219- فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَانْتَحَى . . . بِنَا بَطْنُ خبْتٍ ذِي قِفَافِ عَقَنْقَل{[47307]}

أي فلما أجزنا أجزنا وانتحى{[47308]} ويُعْزَى هذا لسيبويه وشيخه الخلِيلِ{[47309]} . وفيه نظَر من حيث اتخاذ الفعلين الجَاريَيْنِ مَجْرَى الشَّرْط والجواب ، إلا أنْ يُقَال : جعل التغاير في الآية بالعطف على الفعل وفي البيت بعمل الثاني في «ساحة » وبالعطف عليه أيضاً ، والظاهر أن مثل هذا لا يكفي في التغاير{[47310]} .

الثاني : أنه «وَتَلَّهُ لِلْجَبِين » والواو زائدة وهو قول الكوفيين والأخفش . {[47311]}

والثالث : أنه «وَنَادَيْنَاهُ » والواو زائدة{[47304]} أيضاً كقوله : { وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ }{[47305]} [ يوسف : 15 ] فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْت الرؤيا . تَمَّ الكلام هنا . ثم ابتدأ : إنَّ كَذَلِكَ ( نَجْزِي المُحْسِنِينَ ) وقرأ عَلِيُّ وعبدُ الله وابنُ عباس سلّما{[47306]} ، وقرئ : اسْتَسْلَمَا{[47307]} . «وتله » أي صرعه وأضْجَعَهُ على شِقِّه ، وقيل : هو الرمي بقوة وأصله من رمى به على التلِّ وهو المكان المرتفع أو من التَّليل وهو العُنُق ، أي رماه على عُنُقِهِ ، ثم قيل لكُلّ إسقاط وإن لم يكن على تَلِّ ولا عنق . والتَّلُّ الرِّيح الذي يُتَلُّ به ، و «الجَبِينُ » ما انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا ، وشذ جمعه على أجْبُن ، وقياسه في القلة أَجْبِنَة كَأرْغفَةِ وفي الكثرة جُبُن وجُبْنَان كرَغِيفٍ ورُغُفٍ وَرُغْفَان{[47308]} .

فصل

والمعنى سلم لأمر الله ، وأَسْلَم واسْتَسْلَمَ بمعنًى واحد أي انقاد وخضع . والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله ، وعن قتادة في أسلما : أسلم هذا ابنه ، وهذا نفسه{[47309]} ، وقوله : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي صرعه على شِقِّه فوقع أحد جبينيه للأرض وللوجه جَبِينَانِ والجبهة بينهما .

قال ابن الأعرابي : التَّلِيلُ والمَتْلُون المَصْرُوع والمُتلُّ الذي يُتَلُّ به أي يُصْرَعُ{[47304]} ، والمعنى أنه صرعه على جبينه . وقال مقاتل : كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة


[47304]:قاله مكي في مشكله 2/240 وصاحب التبيان 1092 والبيان 2/307 والسمين 4/563.
[47305]:هذا هو تقدير الزمخشري في الكشاف من كلام قاله فيه هذا معظمه. الكشاف 3/348.
[47306]:البحر 7/370.
[47307]:من الطويل من المعلقة المعهودة ويروى الشطر الثاني هكذا: ............................. بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل وأجزنا: قطعنا، والساحة : الفناء، وانتحى: اعترض، والخبت: بطن من الأرض غامض. والقفاف مفرده قف ما غلظ من الأرض، وارتفع والعقنقل: المنعقد المتداخل بعضه في بعض وهو يخبرنا بحاله معها. وشاهده: أن جواب لما مقدر من لفظ فعل الشرط كما قاله ابن عطية و "انتحى" عطف على "أجزنا" المقدر. وهو الجواب وانظر: البحر 7/370 والإنصاف 457 ومعاني الفراء 2/250، 261 والسبع الطوال 54، 55 والجامع للقرطبي 15/104 والمنصف 3/41 واللسان: "ج و ز" وتمهيد القواعد 2/845 وديوانه 15/ بلفظ : "ذي ركام".
[47308]:في ب: انتهى. وهو غير مراد.
[47309]:وفيها: الجليل بالجيم. وقد قال في الكتاب: "وسألت الخليل عن قوله: "حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها" أين جوابها وعن قوله.......فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر في كلامهم لعلم المخبر لأي شيء وضع هذا الكلام". فلم يقدر سيبويه ولا شيخه الجواب بلفظ الشرط ولعله في مكان آخر لم نقع عليه.
[47310]:قاله شهاب الدين السمين في الدر 4/564.
[47311]:نقله البيان 2/307، والتبيان 1092 ومشكل الإعراب 2/240 لبعض الكوفيين.