ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } أي : العفائف عن الفجور { الْغَافِلَاتِ } التي لم يخطر ذلك بقلوبهن { الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير .
وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا زيادة على اللعنة ، أبعدهم عن رحمته ، وأحل بهم شدة نقمته .
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به . إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا . فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار ، كأمثال ابن أبي فلا سماحة ولا عفو . ولو أفلتوا من الحد في الدنيا ، لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة . ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود :
( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ، ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) . .
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها ؛ وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارات ، غير آخذات حذرهن من الرمية . وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا ، لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه ! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة . ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة . لعنة الله لهم . وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة .
{ إن الذين يرمون المحصنات } العفائف . { الغافلات } عما قذفن به . { المؤمنات } بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كابن أبي . { لعنوا في الدنيا والآخرة } لما طعنوا فيهن . { ولهم عذاب عظيم } لعظم ذنوبهم ، وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب ، وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا توبة له ، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها .
قال سعيد بن جبير إن هذه الآية التي تضمنت لعن القاذف وتوعده الشديد إنما هي خاصة في رماة عائشة ، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما بل هذه لجميع أزواج النبي عليه السلام ، غلظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين ، فلعن قاذفهن ولم يقرن بآخر الآية توبة ع وقاذف غيرهن له اسم الفسق ، وذكرت له التوبة ، وقالت جماعة من العلماء بل هي في شأن عائشة إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة ، وقال بعض هذه الفرقة إن هذه الآية نزلت أولاً في القاذفين ، ثم نزلت بعد ذلك الآية التي صدرت في السورة التي فيها التوبة ، وقد تقدم القول في { المحصنات } ما معناه ، و «اللعنة » في هذه الآية الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم وزوالهم عن رتبة العدالة ، وعلى من قال إن هذه الآية خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أُبي وأَشباهه{[8654]} وفي ضمن رمي المحصنة رمي الرجل معها وقد يكون مؤمناً ،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ" بالفاحشة "المُحْصَناتِ "يعني: العفيفات "الغافِلاتِ" عن الفواحش "المُؤْمِناتِ" بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله، "لُعِنُوا فِي الدّنيْا والآخِرَةِ" يقول: أُبْعِدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة، "وَلَهُمْ" في الآخرة "عَذَابٌ عَظِيمٌ" وذلك عذاب جهنم.
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي هذا حكمهن؛
فقال بعضهم: إنما ذلك لعائشة خاصة، وحكم من الله فيها وفيمن رماها، دون سائر نساء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم...
وقال آخرون: بل ذلك لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء غيرهنّ..
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، وعُني بها كلّ من كان بالصفة التي وصف الله هذه الآية، قالوا: فذلك حكم كلّ من رَمى محصنة لم تقارف سُوءا... وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أوّل السورة فأوجب الجَلْد وقبل التوبة...
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، والحكم بها عامّ في كلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها.
وإنما قلنا ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لأن الله عمّ بقوله: "إنّ الّذِينَ يَرمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ" كلّ محصنة غافلة مؤمنة رماها رام بالفاحشة، من غير أن يحضّ بذلك بعضا دون بعض، فكلّ رام محصنة بالصفة التي ذكر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية فملعون في الدنيا والآخرة وله عذاب عظيم، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفاته، فإن الله دلّ باستثنائه بقوله: "إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَحُوا" على أن ذلك حكم رامي كل محصنة بأيّ صفة كانت المحصنة المؤمنة المرمية، وعلى أن قوله: "لُعِنُوا في الدّنيْا والآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" معناه: لهم ذلك إن هلكوا ولم يتوبوا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بالغ في توعده لهم حيث ذكر لفظ اللعنة في شأنهم. ووَصَفَ المحصنات بالغفلة: أي بالغفلة عما يُنْسَبْنَ إليه؛ فليس الوصف على جهة الذمِّ، ولكن لبيان تباعدهن عمَّا قيل فيهن. واستحقاقُ القّذَفَةِ لِلعَنةِ -في الدنيا والآخرة- يدل على أنه لشؤم زلتهم تتغير عواقبهم، فيخرجون من الدنيا لا على الإسلام.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله تعالى:"إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات" أي: الغافلات عن الفواحش، والغافلة عن الفاحشة أن لا يقع في قلبها فعل الفاحشة، وكانت عائشة -رضي الله عنها- هكذا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الغافلات} السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء، ولا مكر، لأنهنّ لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال، فلا يفطنّ لما تفطن له المجربات العرافات.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
فان قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟ فالجواب: أن من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمنا، فاستغني عن ذكر المؤمنين.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الختم بهذين الوصفين بعد الأمر بالعفو ربما جرّأ على مثل هذه الإساءة، وصل به مرهباً من الوقوع في مثل ذلك قوله معمماً للحكم: {إن الذين يرمون} أي بالفاحشة {المحصنات} أي اللائي جعلن أنفسهن من العفة في مثل الحصن. ولما كان الهام بالسيئ والمقدم عليه عالماً بما يرمي به منه، جاعلاً له نصب عينه، أكد معنى الإحصان بقوله: {الغافلات} أي عن السوء حتى عن مجرد ذكره. ولما كان وصف الإيمان حاملاً على كل خير ومانعاً من كل سوء، نبه على أن الحامل على الوصفين المتقدمين إنما هو التقوى، وصرف ما لهن من الفطنة إلى ما لله عليهن من الحقوق فقال: {المؤمنات}.
ولما ثبت بهذه الأوصاف البعد عن السوء، ذكر جزاء القاذف كفّاً عنه وتحذيراً منه بصيغة المجهول، لأن المحذور اللعن لا كونه من معين، وتنبيهاً على وقوع اللعن من كل من يتأتى منه فقال: {لعنوا} أي أبعدوا عن رحمة الله، وفعل معهم فعل المبعد من الحد وغيره {في الدنيا والآخرة} ثم زاد في تعظيم القذف لمن هذه أوصافها فقال: {ولهم} أي في الآخرة {عذاب عظيم} وقيد بوصف الإيمان لأن قذف الكافرة وإن كان محرماً ليس فيه هذا المجموع، وهذا الحكم وإن كان عاماً فهو لأجل الصديقة بالذات وبالقصد الأول وفيما فيه من التشديد الذي قل أن يوجد مثله في القرآن من الإعلام بعلي قدرها، وجلي أمرها، في عظيم فخرها، ما يجل عن الوصف.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به، إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار، كأمثال ابن أبي فلا سماحة ولا عفو، ولو أفلتوا من الحد في الدنيا، لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة. ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود:
(إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين)..
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها؛ وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارات، غير آخذات حذرهن من الرمية. وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا، لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة. ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة. لعنة الله لهم. وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه الآية عامة في كل من يرمي محصنة...فهي تعم كل من ليس عفيف اللسان يرمي النساء بالفحش، لأدنى شبهة، وإن الكامل يعف لسانه عن النطق بالهجر...والمحصنة هي التي لم ترتكب الخنا، وهي عفيفة عرفت بالعفة، ولم تعرف بالفجر، {الغافلات} الغافلة هي الطيبة الطاهرة التي ليس عندها خبرة، ولا معرفة بأحوال الناس، وشأن المرأة التقية أن تكون في غفلة عما يلهو به الناس، لا تعرف الرذيلة ولا ترتكبها، فيها غرارة، وسذاجة، والمؤمن كما في الأثر: غر كريم، والمنافق خب لئيم، وليس المراد أنها بلهاء، بل تفسر الغافلة بأنها الساذجة المستقيمة النفس التي تعيش بالفطرة ولا تجانفها..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة، كلّ واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهنّ في شرفهنّ: «المحصنات» أي العفيفات الطاهرات الذيل و«الغافلات» البعيدات عن كل تهمة وتلوّث و«المؤمنات». كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل. كما أنّ عبارة «غافلات» تلفت النظر، لأنّها تكشف عن منتهى طهارتهنّ من أي انحراف وتلوّث، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنّهن لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل، فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج، وهذه مرحلة عالية من التقوى.