{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } هذا عقد ، عقده الله بين المؤمنين ، أنه إذا وجد من أي شخص كان ، في مشرق الأرض ومغربها ، الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فإنه أخ للمؤمنين ، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ، ما يحبون لأنفسهم ، ويكرهون له ، ما يكرهون لأنفسهم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية : " لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا يبع أحدكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانًا المؤمن أخو المؤمن ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره " {[799]} .
وقال صلى الله عليه وسلم{[800]} " المؤمن للمؤمن ، كالبنيان يشد بعضه بعضًا " وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه .
ولقد أمر الله ورسوله ، بالقيام بحقوق المؤمنين ، بعضهم لبعض ، وبما به يحصل التآلف والتوادد ، والتواصل بينهم ، كل هذا ، تأييد لحقوق بعضهم على بعض ، فمن ذلك ، إذا وقع الاقتتال بينهم ، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها [ وتدابرها ] ، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم ، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم .
ثم أمر بالتقوى عمومًا ، ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله ، الرحمة [ فقال : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وإذا حصلت الرحمة ، حصل خير الدنيا والآخرة ، ودل ذلك ، على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين ، من أعظم حواجب الرحمة .
وفي هاتين الآيتين من الفوائد ، غير ما تقدم : أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية ، ولهذا ، كان من أكبر الكبائر ، وأن الإيمان ، والأخوة الإيمانية ، لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبار ، التي دون الشرك ، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة ، وعلى وجوب الإصلاح ، بين المؤمنين بالعدل ، وعلى وجوب قتال البغاة ، حتى يرجعوا إلى أمر الله ، وعلى أنهم لو رجعوا ، لغير أمر الله ، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه ، أنه لا يجوز ذلك ، وأن أموالهم معصومة ، لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة ، دون أموالهم .
ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم ، والتي جمعتهم بعد تفرق ، وألفت بينهم بعد خصام ؛ وتذكيرهم بتقوى الله ، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه :
( إنما المؤمنون إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .
ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة ، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه ؛ وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف ، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة . وهو إجراء صارم وحازم كذلك .
ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه ، وألا يقتل أسير ، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة ، وألقى السلاح ، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة . لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم ، وإنما هو ردهم إلى الصف ، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية .
والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة ، وأنه إذا بويع لإمام ، وجب قتل الثاني ، واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام . وعلى هذا الأصل قام الإمام علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين ؛ وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم . وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر - رضي الله عنهم - إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة . وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص : " ربما رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك " . . والاحتمال الأول أرجح ، تدل عليه بعض أقوالهم المروية . كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام .
ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات - بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة من بلاد المسلمين ، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة - فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد ، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه . أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه . وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية ، بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله . وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال .
وواضح أن هذا النظام ، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، نظام له السبق من حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق . وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة ! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق ، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى ، ولا يتعلق به نقص أو قصور . . ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج ، وتكبو وتتعثر . وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم !
وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } أي : الجميع إخوة في الدين ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " {[27092]} . وفي الصحيح : " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " {[27093]} . وفي الصحيح أيضا : " إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ، ولك بمثله " {[27094]} . والأحاديث في هذا كثيرة ، وفي الصحيح : " مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر " . وفي الصحيح أيضا : " المؤمن للمؤمن كالبنيان ، يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه{[27095]} .
وقال أحمد : حدثنا أحمد بن الحجاج ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا مصعب بن ثابت ، حدثني أبو حازم قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لأهل الإيمان ، كما يألم الجسد لما في الرأس " {[27096]} . تفرد به ولا بأس بإسناده .
وقوله : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني : الفئتين المقتتلتين ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أموركم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه .
وقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } يريد إخوة الدين . وقرأ الجمهور من القراء : «بين أخويكم » وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الإصلاح فإنما هو بين رجلين رجلين . وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه : «بين إخوتكم » .
وقرأ ابن سيرين وزيد بن ثابت وابن مسعود والحسن وعاصم الجحدري وحماد بن سلمة : «بين إخوانكم » . وهي حسنة . لأن الأكثر من جمع الأخ في الدين ونحوه من النسب إخوان . والأكثر في جمعه من النسب إخوة وإخاء . قال الشاعر : [ الطويل ]
وجدتم أخاكم دوننا إذ نسيتم . . . وأي بني الإخاء تنبو مناسبه ؟{[10462]}
وقد تتداخل هذه الجموع في كتاب الله . فمنه : { إنما المؤمنون إخوة }ومنه { أو بيوت إخوانكم }{[10463]} فهذا جاء على الأقل من الاستعمال .
تعليل لإقامة الإصلاح بين المؤمنين إذا استشرى الحال بينهم ، فالجملة موقعها موقع العلة ، وقد بني هذا التعليل على اعتبار حال المسلمين بعضهم مع بعض كحال الإخوة .
وجيء بصيغة القصر المفيدة لحصر حالهم في حال الإخوة مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين فهو قصر ادعائي أو هو قصر إضافي للرد على أصحاب الحالة المفروضة الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين ، وأخبر عنهم بأنهم إخوة مجازاً على وجه التشبيه البليغ زيادة لتقرير معنى الأخوة بينهم حتى لا يحق أن يقرن بحرف التشبيه المشعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخُوَّة . وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين لأن شأن { إنما } أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما يُنَزِّل منزلة ذلك كما قال الشيخ في « دلائل الإعجاز » في الفصل الثاني عشر وساق عليه شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب فلذلك كان قوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } مفيد أن معنى الأخوة بينهم معلوم مقرر . وقد تقرر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى : { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } في سورة الحشر ( 10 ) ، وهي سابقة في النزول على هذه السورة فإنها معدودة الثانية والمائة ، وسورة الحجرات معدودة الثامنة والمائة من السور . وآخى النبي بين المهاجرين والأنصار حين وروده المدينة وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين . وفي الحديث لو كنت متّخذاً خليلاً غيرَ ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام أفضل .
وفي باب تزويج الصغار من الكبار من « صحيح البخاري » " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة من أبي بكر . فقال له أبو بكر : إنما أنا أخوك فقال : أنتَ أخي في دين الله وكتابِه وهي لي حلال " وفي حديث « صحيح مسلم » " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم " وفي الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه " أي يحب للمسلم ما يحب لنفسه .
فأشارت جملة { إنما المؤمنون إخوة } إلى وجه وجوب الإصلاح بين الطائفتين المُتبَاغِيَتَيْن منهم ببيان أن الإيمان قد عَقَد بين أهله من النسب الموحَى ما لا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية على نحو قول عمر بن الخطاب للمرأة التي شكت إليه حاجة أولادها وقالت : أنا بنت خُفاف بن أيْمَاء ، وقد شهد أبي مع رسول الله الحديبية فقال عمر « مرحبا بنسب قريب » . ولما كان المتعارف بين الناس أنه إذا نشبت مشاقّة بين الأخوين لزم بقية الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتها مشياً بالصلح بينهما فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شقاق بين طائفتين منهم أن ينهض سائرهم بالسعي بالصلح بينهما وبثِّ السفراء إلى أن يرقعوا ما وهى ، ويرفعوا ما أصاب ودهَى .
وتفريع الأمر بالإصلاح بين الأخوين ، على تحقيق كون المؤمنين إخوة تأكيد لما دلت عليه { إنما } من التعليل فصار الأمر بالإصلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله : { فأصلحوا بينهما } ، وقوله : { فأصلحوا بينهما بالعدل } [ الحجرات : 9 ] قد أردف بالتعليل فحصل تقريره ، ثم عقب بالتفريع فزاده تقريراً .
وقد حصل من هذا النَظم ما يشبه الدعوى وهي كمطلوب القياس ، ثم ما يشبه الاستدلال بالقياس ، ثم ما يشبه النتيجة .
ولمَّا تقرر معنى الأخوة بين المؤمنين كمالَ التقرّر عُدل عن أن يقول : فأصلحوا بين الطائفتين ، إلى قوله : { بين أخويكم } فهو وصف جديد نشأ عن قوله : { إنما المؤمنون إخوة } ، فتعين إطلاقه على الطائفتين فليس هذا من وضع الظاهر موضع الضمير فتأمل .
وأوثرت صيغة التثنية في قوله : { أخويكم } مراعاة لكون الكلام جار على طائفتين من المؤمنين فجعلت كل طائفة كالأخ للأخرى . وقرأ الجمهور { بين أخويكم } بلفظ تثنية الأخ ، أي بين الطائفة والأخرى مراعاة لجريان الحديث على اقتتال طائفتين . وقرأ الجمهور { بين أخويكم } بلفظ تثنية الأخ على تشبيه كل طائفة بأخ . وقرأ يعقوب { فأصلحوا بين إخوَتِكم } بتاء فوقية بعد الواو على أنه جمع أخ باعتبار كل فرد من الطائفتين كالأخ .
والمخاطب بقوله : { واتقوا اللَّه لعلكم ترحمون } جميع المؤمنين فيشمل الطائفتين الباغية والمبغي عليها ، ويشمل غيرهما ممن أمروا بالإصلاح بينما ومقاتلة الباغية ، فتقوى كلَ بالوقوف عند ما أمر الله به كُلّا مما يخصه ، وهذا يشبه التذييل . ومعنى { لعلكم ترحمون } : تُرجى لكم الرحمة من الله فتجري أحوالكم على استقامة وصلاح . وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين وشأن تعامل الإخوة الرحمة فيكون الجزاء عليها من جنسها .