{ 78 - 80 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
يخبر تعالى بمننه على عباده الداعية{[551]} لهم إلى شكره ، والقيام بحقه فقال : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ } لتدركوا به المسموعات ، فتنتفعوا في دينكم ودنياكم ، { وَالْأَبْصَارَ } لتدركوا بها المبصرات ، فتنتفعوا بها{[552]} في مصالحكم .
{ وَالْأَفْئِدَةَ } أي : العقول التي تدركون بها الأشياء ، وتتميزون بها عن البهائم ، فلو عدمتم السمع ، والأبصار ، والعقول ، بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم ؟ وماذا تفقدون من ضرورياتكم وكمالكم ؟ أفلا تشكرون الذي من عليكم بهذه النعم ، فتقومون بتوحيده وطاعته ؟ . ولكنكم ، قليل شكركم ، مع توالي النعم عليكم .
ثم يجول معهم جولة أخرى علها توقظ وجدانهم إلى دلائل الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق من حولهم :
( وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة . قليلا ما تشكرون . وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون . وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار . أفلا تعقلون ? ) . .
ولو تدبر الإنسان خلقه وهيئته ، وما زود به من الحواس والجوارح ، وما وهبه من الطاقات والمدارك لوجد الله ، ولاهتدى إليه بهذه الخوارق الدالة على أنه الخالق الواحد . فما أحد غير الله بقادر على إبداع هذه الخلقة المعجزة في الصغير منها وفي الكبير .
هذا السمع وحده وكيف يعمل ? كيف يلتقط الأصوات ويكيفها ? وهذا البصر وحده وكيف يبصر ? وكيف يلتقط الأضواء والأشكال ? وهذا الفؤاد ما هو ? وكيف يدرك ? وكيف يقدر الأشياء والأشكال والمعاني والقيم والمشاعر والمدركات ?
إن مجرد معرفة طبيعة هذه الحواس والقوى وطريقة عملها ، يعد كشفا معجزا في عالم البشر . فكيف بخلقها وتركيبها على هذا النحو المتناسق مع طبيعة الكون الذي يعيش فيه الإنسان ؛ ذلك التناسق الملحوظ الذي لو اختلت نسبة واحدة من نسبه في طبيعة الكون أو طبيعة الإنسان لفقد الاتصال ، فما استطاعت أذن أن تلتقط صوتا ، ولا استطاعت عين أن تلتقط ضوءا . ولكن القدرة المدبرة نسقت بين طبيعة الإنسان وطبيعة الكون الذي يعيش فيه ، فتم هذا الاتصال . غير أن الإنسان لا يشكر على النعمة : ( قليلا ما تشكرون ) . . والشكر يبدأ بمعرفة واهب النعمة ، وتمجيده بصفاته ، ثم عبادته وحده ؛ وهو الواحد الذي تشهد بوحدانيته آثاره في صنعته . ويتبعه استخدام هذه الحواس والطاقات في تذوق الحياة والمتاع بها ، بحس العابد لله في كل نشاط وكل متاع .
ثم ذكر تعالى نعمته على عباده في أن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، وهي العقول والفهوم ، التي يدركون{[20627]} بها الأشياء ، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى ، وأنه الفاعل المختار لما يشاء .
وقوله : { قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي : وما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم ، كقوله : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] .
ابتدأ تعالى بتعديد نعم في نفس تعديدها استدلال بها على عظيم قدرته وأنها لا يعزب عنها أمر البعث ولا يعظم و { أنشأ } بمعنى اخترع و { السمع } مصدر فلذلك وحد وقيل أراد الجنس ، و { الأفئدة } القلوب وهذه إشارة إلى النطق والعقل وقوله { قليلاً } نعت لمصدر محذوف تقديره شكراً قليلاً ما تشكرون وذهبت فرقة إلى أنه أراد { قليلاً } منكم من يشكر أي يؤمن ويشكر حق الشكر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهو الذي أنشأ لكم} يعني: خلق لكم {السمع والأبصار والأفئدة} يعني: القلوب فهذا من النعم، {قليلا ما تشكرون} يعني: بالقليل أنهم لا يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي أَحْدَثَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، السَّمْعَ الَّذِي تَسْمَعُونَ بِهِ، وَالْأَبْصَارَ الَّتِي تُبْصِرُونَ بِهَا، وَالْأَفْئِدَةَ الَّتِي تَفْقَهُونَ بِهَا، فَكَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ أَنْشَأَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً إِعَادَتُهُ بَعْدَ عَدَمِهِ وَفَقْدِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِذَا شَاءَ ، وَيُفْنِيهِ إِذَا أَرَادَ.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} يَقُولُ: تَشْكُرُونَ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ خَبَرَ اللَّهِ مِنْ عَطَائِكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم ليستأدي بذلك الشكر له عليها، ذكر أمهات النعم لم يذكر غيرها، وهي السمع والبصر والفؤاد الذي ذكر، إذ بها يوصل إلى معرفة كل نافع وضار وكل طيب وخبيث وكل لين وخشن وكل سهل وشديد وكل حلو ومر، وكان الإنسان مطبوعا على حب النافع والطيب واللين والسهل، واختياره على أضداده، والهرب من كل ضار ومؤذ والفرار من أضداد ما ذكرنا من المختارات عنده. فأخبر أنه أعطى لهم ما يعرفون به النافع من الضار والطيب من الخبيث مشاهدة وخبرا، وما به يميزون ذا من ذا، ويختارون ما هو المختار عندهم من غيره، وما ينفعهم مما يضرهم ليستأدي بذلك شكره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ذكر عظيمَ مِنَّتِهِ عليهم بأن خَلَقَ لهم هذه الأعضاء، وطالَبَهم بالشكر عليها. وشُكْرُهُمْ عليها استعمالُها في طاعته؛ فَشُكْرُ السَّمْعِ ألا تسمعَ إلا بالله ولله، وشُكْرُ البَصَر ألا تنظرَ إلا بالله ولله، وشكرُ القلب ألاَّ تشهدَ غيرَ الله، وألاَّ تحبَّ به غيرَ الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إنما خصّ السمع والأبصار والأفئدة، لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها؛ ومقدمة منافعها أن يعملوا أسماعهم وأبصارهم في آيات الله وأفعاله، ثم ينظروا ويستدلوا بقلوبهم. ومن لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، كما قال الله تعالى: {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شيء} [الأحقاف: 26] إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ومقدمة شكر النعمة فيها الإقرار بالمنعم بها، وأن لا يجعل له ندّ ولا شريك، "قليلاً ما تشكرون "أي: تشكرون شكراً قليلاً، و {مَّا} مزيدة للتأكيد بمعنى حقاً.
واعلم أنه سبحانه بين عظيم نعمه من وجوه؛ أحدها: بإعطاء السمع والأبصار والأفئدة، وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن الاستدلال موقوف عليها، ثم بين أنه يقل منهم الشاكرون، قال أبو مسلم وليس المراد أن لهم شكرا وإن قل، لكنه كما يقال للكفور الجاحد للنعمة ما أقل شكر فلان.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم ذكر تعالى نعمته على عباده في أن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهي العقول والفهوم، التي يدركون بها الأشياء، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه الفاعل المختار لما يشاء...
{قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي: وما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم، كقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم التفت إلى خطابهم، استعطافاً بعتابهم، لأنه عند التذكير بعذابهم أقرب إلى إيابهم، فقال: {وهو} أي ما استكانوا لربهم والحال أنه هو لا غيره {الذي أنشأ لكم} يا من يكذب بالآخرة، على غير مثال سبق {السمع والأبصار} ولعله جمعها لأن التفاوت فيها أكثر من التفاوت في السمع {والأفئدة} التي هي مراكز العقول، فكنتم بها أعلى من بقية الحيوانات، جمع فؤاد، وهو القلب لتوقده وتحرقه، من التفؤد وهو التحرق، وعبر به هنا لأن السياق للاتعاظ والاعتبار، وجمعه جمع القلة إشارة إلى عزة من هو بهذه الصفة، ولعله جمع الأبصار كذلك لاحتمالها للبصيرة.
ولما صور لهم هذه النعم، وهي بحيث لا يشك غافل في أنه لا مثل لها، وأنه لو تصور أن يعطي شيئاً منها آدمي لم يقدر على مكافأته، حسن تبكيتهم في كفر المنعم بها فقال: {قليلاً ما تشكرون} لمن أولاكم هذه النعم التي لا مثل لها، ولا يقدر غيره على شيء منها، مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك أنزل من الحيوانات العجم صماً بكماً عمياً.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
["قليلا ما تشكرون"]، والقلة في الآية هذه ونظائرها، بمعنى النفي، في أسلوب التنزيل الكريم. لأن الخطاب للمشركين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يجول معهم جولة أخرى علها توقظ وجدانهم إلى دلائل الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق من حولهم.. ولو تدبر الإنسان خلقه وهيئته، وما زود به من الحواس والجوارح، وما وهبه من الطاقات والمدارك لوجد الله، ولاهتدى إليه بهذه الخوارق الدالة على أنه الخالق الواحد. فما أحد غير الله بقادر على إبداع هذه الخلقة المعجزة في الصغير منها وفي الكبير...
إن مجرد معرفة طبيعة هذه الحواس والقوى وطريقة عملها، يعد كشفا معجزا في عالم البشر. فكيف بخلقها وتركيبها على هذا النحو المتناسق مع طبيعة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ ذلك التناسق الملحوظ الذي لو اختلت نسبة واحدة من نسبه في طبيعة الكون أو طبيعة الإنسان لفقد الاتصال...
والشكر يبدأ بمعرفة واهب النعمة، وتمجيده بصفاته، ثم عبادته وحده؛ وهو الواحد الذي تشهد بوحدانيته آثاره في صنعته. ويتبعه استخدام هذه الحواس والطاقات في تذوق الحياة والمتاع بها، بحس العابد لله في كل نشاط وكل متاع.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين الله سبحانه وتعالى أنه منحهم أسباب الإدراك، ولم يدركوا، ولم يشكروا الله تعالى على ما أنعم، فهو سبحانه وتعالى أنشأ لكم السمع لتسمعوا الخير وتدركوه، ولتسمعوا آيات الله تعالى في الرعد، فترهبوه، ولتسمعوا النذر فتتقوا، ولتسمعوا المبشرات فترجوه. والأبصار: وهي جمع بصر، لتبصروا الكون وما فيه، فتبصروا الشمس والقمر، والنجوم في أبراجها، والماء ينزل فينبت الزرع، وتكون الأرض ذات منظر بهيج.. وإن هذه الحواس والمدارك هي التي بها علا الإنسان... وإن أول شكر للنعمة الإقرار بفضل من أنعم، وألا يسوى بغيره مما لا يضر ولا ينفع، وليس له سمع ولا بصر ولا فؤاد، بل هي أحجار لا حياة فيها.
فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك لا تعرف من هو هذا الخالق يأتي الرسول ليقول لك: إنه الله...
الشاهد: أن هذه الآيات كلها تحتاج إلى وسائل لإدراكها، تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها، ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها، لذلك يقول سبحانه: {وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة} السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطا الحواس الخمس الظاهرة أي: أن هناك حواس أخرى لم يكتشفوها، وفعلا اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل، وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلا، فهذه الأشياء لا تستطيع التعرف عليها بالحواس الخمس المعروفة. وعمدة الحواس: السمع والبصر، لأنه إذا جاءني رسول يبلغني عن الله لا بد أن أسمع منه، فإن كنت مؤمنا بإله فقد اكتفيت بحاسة السمع، وإن كنت غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته الدالة على وجوده وقدرته، وتستدل بالصنعة على الصانع، وبالخلقة على الخالق، وتقف على ما في كون الله من الدقة والإحكام والهندسة والإبداع، وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك...
وهكذا من المحسات ومن تجارب الحياة تتكون لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد. إذن: من وسائل الإدراك تتكون المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل، ويفاضل بينها حتى ينتهي إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونسميها عقيدة يعني: شيء معقود عليه لا ينحل. وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يرتبها دائما هذا الترتيب: السمع والبصر والفؤاد لأنها عمدة الحواس، فالشم مثلا والتذوق واللمس لا نحتاج إليه إلا قليلا، أما السمع والبصر فعليهما تقوم مسألة الدعوة: السمع لسماع البلاغ، والبصر لنرى آيات الله الدالة على قدرته تعالى. وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدل على أنه ترتيب من خالق عن حكمة وعلم وقدرة، بحيث لا يأتي واحد منها قبل الآخر، كما أثبت علماء وظائف الأعضاء صدق هذا الترتيب... إذن: فهذا الترتيب خلقي وتكويني... وكأن الحق سبحانه يقول: لا عذر لك عندي فقد أعطيتك سمعا لتسمع البلاغ عني من الرسول، وأعطيتك عينا لتلتفت إلى آيات الكون، وأعطيتك فؤادا تفكر به، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلك على وجود الخالق عز وجل. إذن: ما أخذتك على غرة، ولا خدعتك في شيء، إنما خلقتك من عدم، وأمددتك من عدم، ورتبت لك منافذ الإدراك ترتيبا منطقيا تكوينيا، فأي عذر لك بعد ذلك.. وإياكم بعد هذا كله أن تشغلكم الأهواء، وتصرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا. والمتأمل في تركيب كل من الأذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق- عز وجل- ما يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدم العلوم إلى أسرارها وكنهها. ثم يقول سبحانه في ختام الآية: {قليلا ما تشكرون} لأن هذه نعم وآلاء وآيات لله، كان ينبغي أن تشكر حق الشكر. البعض يقول في معنى {قليلا ما تشكرون} أنه تعالى عبر عن عدم الشكر بالقلة، وهذا الفهم لا يستقيم هنا، لأن الله تعالى أثبت لعباده شكرا لكنه قليل، وربك- عز وجل- يريد شكرا دائما يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك، فساعة ترى الأعمى الذي حرم نعمة البصر يتخبط في الطريق تقول الحمد لله، تقولها هكذا بالفطرة، لأنك تعيش وتتقلب في نعم الله، لكن لا تتذكرها إلا حين ترى من حرم منها. لذلك، إن أردت أن تدوم لك النعمة فاعقلها بذكر الله المنعم قل عند النعمة، أو عند رؤية ما يعجبك في أهل أو مال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ألا ترى أن الله تعالى جعل الحسد لينبهنا: إن أردت صيانة النعمة فلا تنس المنعم، لأنه وحده القادر على حفظها وصيانتها، كما نشتري الآن آلة، ونتفق مع صانعها على صيانتها صيانة دورية مقابل أجر معين. كذلك إن قلت عند النعمة: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فلن ترى فيها سوء أبدا، لأنك أيقظت ب "ما شاء الله لا قوة إلا بالله "قانون صيانتها، وجعلت حفظها إلى من صنعها. ولا يصاب الإنسان في النعمة إلا إذا غفل عن المنعم وترك الشكر عليها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنها النعم التي ترتفع بالإنسان، عندما تجتمع له، إلى الآفاق التي تربطه بالقضايا الكبرى، وكليات الحقائق، وقوانين الوجود، وقواعد المعرفة، وتقوده من خلال عمق العلم ورحابته إلى أن يكون القوّة التي تقود الحياة وتوجّهها في الاتجاه الصحيح، فهل تشكرونها، وهل تعرفون أن الشكر في هذا المجال ليس كلمةً تقولونها، وليس التفاتة عرفان بالجميل تتمثلونها أو تعبرون عنها بابتسامةٍ، أو انحناءةٍ، أو هديةٍ أو ما إلى ذلك، مما اعتاد الناس أن يعبروا به عن شكرهم للجميل؟! بل هو حالة وجدانية تهزّ الكيان اعترافاً بالخضوع العميق للخالق الذي أبدع وأعطى ودبّر، وموقف طاعة دقيقة شاملة لكل أوامره ونواهيه، تعبيراً عن خضوع المخلوق للخالق في وعيه لسرّ العبودية في ذاته للإِله الذي خلقه، إنه شكر الوجود الإنساني الحيّ المتحرك بالموقف لخالق الوجود.. ولكن ما تعيشونه خلاف ذلك.. فأنتم {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} فليس هناك إلا القليل القليل من الشكر الذي لا يعبر عن الإحساس بالنعمة.