{ 28 } ثم استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي ، وهو دليل الابتداء ، فقال : { نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } أي : أوجدناهم من العدم ، { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } أي : أحكمنا خلقتهم بالأعصاب ، والعروق ، والأوتار ، والقوى الظاهرة والباطنة ، حتى تم الجسم واستكمل ، وتمكن من كل ما يريده ، فالذي أوجدهم على هذه الحالة ، قادر على أن يعيدهم بعد موتهم لجزائهم ، والذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الأطوار ، لا يليق به أن يتركهم سدى ، لا يؤمرون ، ولا ينهون ، ولا يثابون ، ولا يعاقبون ، ولهذا قال : { بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا } أي : أنشأناكم للبعث نشأة أخرى ، وأعدناكم بأعيانكم ، وهم بأنفسهم أمثالهم .
يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس ، وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم . ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم :
( نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ، وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ) . .
وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم ، بمصدر هذه القوة ، بل مصدر وجودهم ابتداء . ثم تطمئن الذين آمنوا - وهم في حالة الضعف والقلة - إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته . كما تقرر في نفوسهم حقيقة قدر الله وما وراءه من حكمة مقصودة ، هي التي تجري وفقها الأحداث حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
( وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ) . . فهم لا يعجزون الله بقوتهم ، وهو خلقهم وأعطاهم إياها . وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم . . فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته وهو قضاؤه وحكمته . .
ومن هنا تكون الآية استطرادا في تثبيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه ؛ وتقريرا لحقيقة موقفهم وموقف الآخرين . . كما أنها لمسة لقلوب هؤلاء المستغرقين في العاجلة ، المغترين بقوة أسرهم ، ليذكروا نعمة الله ، التي يتبطرون بها فلا يشكرونها ؛ وليشعروا بالابتلاء الكامن وراء هذه النعمة . وهو الابتلاء الذي قرره لهم في مطلع السورة .
ثم قال : { نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني خَلْقَهم . { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا } أي : وإذا شئنا بعثناهم يوم القيامة ، وبَدلناهم فأعدناهم خلقا جديدا . وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة .
وقال ابن زيد ، وابن جرير : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا } [ أي ]{[29618]} : وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم ، كقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ{[29619]} قَدِيرًا } [ النساء : 133 ] وكقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19 ، 20 ، وفاطر 16 ، 17 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { نّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً * إِنّ هََذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ سَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : نحن خلقنا هؤلاء المشركين بالله المخالفين أمره ونهيه وَشَدَدْنا أسْرَهُمْ : وشددنا خلقهم ، من قولهم : قد أُسِر هذا الرجل فأُحسِن أسره ، بمعنى : قد خُلِقَ فأُحسِن خَلْقه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أسْرَهُمْ يقول : شددنا خلقهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وَشَدَدْنا أسْرَهُمْ قال : خَلْقهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَشَدَدْنا أسْرَهُمْ : خَلْقهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
وقال آخرون : الأَسْر : المفاصل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، سمعته ، يعني خلادا يقول : سمعت أبا سعيد ، وكان قرأ القرآن على أبي هريرة قال : ما قرأت القرآن إلا على أبي هريرة ، هو أقرأني ، وقال في هذه الاَية وَشَدَدْنا أسْرَهُمْ قال : هي المفاصل .
وقال آخرون : بل هو القوّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَشَدَدْنا أسْرَهُمْ قال : الأسر : القوّة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه ، وذلك أن الأسر ، هو ما ذكرت عند العرب ومنه قول الأخطل :
مِنْ كلّ مُجْتَنَبٍ شَدِيدٍ أسْرُه *** سَلِسِ الْقِيادِ تَخالُهُ مُخْتالاَ
ومنه قول العامة : خذه بأسره : أي هو لك كله .
وقوله : وَإذَا شِئْنا بَدّلْنا أمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً يقول : وإذا نحن شئنا أهلكنا هؤلاء وجئنا بآخرين سواهم من جنسهم أمثالهم من الخلق ، مخالفين لهم في العمل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : بَدّلْنا أمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً قال : بني آدم الذين خالفوا طاعة الله ، قال : وأمثالهم من بني آدم .
ثم عدد النعم على عباده في خلقهم وإيجادهم وإتقان بنيتهم وشدِّ خلقتهم ، والأسر : الخلقة واتساع الأعضاء والمفاصل ، وقد قال أبو هريرة والحسن والربيع الأسر : المفاصل والأوصال ، وقال بعضهم الأسر : القوة : ومنه قل الشاعر : [ الوافر ]
فأنجاه غداة الموت مني*** شديد الأسر عض على اللجام{[11532]}
وقول آخر [ الأخطل ] : [ الكامل ]
من كل محتدب شديد أسره*** سلس القياد تخاله مختالا{[11533]}
قال الطبري ومنه قول العامة : خذه بأسره يريدون خذه كله{[11534]} .
قال القاضي أبو محمد : وأصل هذا في ما له شد ورباط كالعظم ونحوه ، وليس هذا مما يختص بالعامة بل هو من فصيح كلام العرب . اللهم إلا أن يريد بالعامة جمهور العرب ومن اللفظة الإسار وهو القيد الذي يشد به الأسير ، ثم توعد تعالى بالتبديل واجتمع من القولين تعديد النعمة والوعيد بالتبدل احتجاجاً على منكري البعث ، أي من هذا الإيجاد والتبديل إذا شاء في قدرته ، فكيف تتعذر عليه الإعادة .