{ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } أي : ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به ، لا يخافون نفاده ، بل له مادة لا تنقطع ، وهي عين دائمة الفيضان والجريان ، يفجرها عباد الله تفجيرا ، أنى شاءوا ، وكيف أرادوا ، فإن شاءوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات ، أو إلى الرياض الناضرات ، أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات ، أو إلى أي : جهة يرونها من الجهات المونقات .
ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم :
( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) . .
وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور ، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيرا ، في كثرة ووفرة . . وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حينا وبالزنجبيل حينا زيادة في التلذذ بها ، فهاهم أولاء يعلمون أن في الجنة شرابا طهورا ممزوجا بالكافور ، على وفر وسعة . فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا ، وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى ، ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعا للذة المتاع هناك . فهي أوصاف للتقريب . يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب .
والتعبير يسميهم في الآية الأولى( الأبرار )ويسميهم في الآية الثانية ( عباد الله ) . . إيناسا وتكريما وإعلانا للفضل تارة ، وللقرب من الله تارة ، في معرض النعيم والتكريم .
أي : هذا الذي مُزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويَرْوَوْنَ بها ؛ ولهذا ضمن يشرَب " يروى " حتى عداه بالباء ، ونصب { عَيْنًا } على التمييز .
قال بعضهم : هذا الشراب{[29589]} في طيبه كالكافور . وقال بعضهم : هو من عين كافور . وقال بعضهم : يجوز أن يكون منصوبًا ب { يَشْرَبُ } حكى هذه الأقوال الثلاثة ابنُ جرير .
وقوله : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } أي : يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا ، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم .
والتفجير هو الإنباع ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } [ الإسراء : 90 ] . وقال : { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا } [ الكهف : 33 ] .
وقال مجاهد : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } يقودونها حيث شاؤوا ، وكذا قال عكرمة ، وقتادة . وقال الثوري : يصرفونها حيث شاؤوا .
وقوله : عَيْنا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يقول تعالى ذكره : كان مزاج الكأس التي يشرب بها هؤلاء الأبرار كالكافور في طيب رائحته من عين يشرب بها عباد الله الذين يدخلهم الجنة . والعين على هذا التأويل نصب على الحال من الهاء التي في «مزاجها » ويعني بقوله يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُرْوَى بها ويُنتفع . وقيل : يشرب بها ويشربها بمعنى واحد . وذكر الفرّاء أن بعضهم أنشده :
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمّ تَرَفّعَتْ *** مَتى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنّ نَئِيجُ
وعنى بقوله : «متى لجج » من ، ومثله : إنه يتكلم بكلام حسن ، ويتكلم كلاما حسنا .
وقوله : يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا يقول تعالى ذكره يفجرون تلك العين التي يشربون بها كيف شاؤوا وحيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا ، ويعني بالتفجير : الإسالة والإجراء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال : يدّلونها حيث شاؤوا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال : يقودونها حيث شاؤوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال : مستقيد ماؤها لهم يفجرونها حيث شاؤوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان يُفَجّروُنَها تَفْجِيرا قال : يصرفونها حيث شاؤوا .
وقوله تعالى : { عيناً } هو بدل من قوله { كافوراً } ، وقيل هو مفعول بقوله { يشربون } ، أي { يشربون } ماء هذه العين من كأس عطرة كالكافور ، وقيل نصب { عيناً } على المدح أو بإضمار أعني ، وقوله { يشرب بها } بمنزلة يشربها فالباء زائدة ، وقال الهذلي : شربن بماء البحر{[11501]} . أي شربن ماء البحر ، وقرأ ابن أبي عبلة : «يشربها عباد الله » ، و { عباد الله } هنا خصوص في المؤمنين الناعمين لأن جميع الخلق عباده ، و { يفجرونها } معناه يشقونها{[11502]} بعود قصب{[11503]} ونحوه حيث شاؤوا ، فهي تجري عند كل أحد منهم ، هكذا ورد الأثر ، وقال الثعلبي ، وقيل هي عين في دار النبي صلى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين ، وهذا قول الحسن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.