{ 19-22 } { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
أي { وَجَاءَتْ } هذا الغافل المكذب بآيات الله { سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } الذي لا مرد له ولا مناص ، { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي : تتأخر وتنكص{[826]} عنه .
تلك صفحة الحياة ، ووراءها في كتاب الإنسان صفحة الاحتضار :
( وجاءت سكرة الموت بالحق . ذلك ما كنت منه تحيد ) . .
والموت أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه ، أو يبعد شبحه عن خاطره . ولكن أنى له ذلك : والموت طالب لا يمل الطلب ، ولا يبطيء الخطى ، ولا يخلف الميعاد ؛ وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال ! وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان : ( ذلك ما كنت منه تحيد ) . وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة ! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات ! وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : " سبحان الله . إن للموت لسكرات " . . يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء الله . فكيف بمن عداه ?
ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق : ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) . . وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحق كاملا وهي في سكرات الموت . تراه بلا حجاب ، وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد ، ولكن بعد فوات الأوان ، حين لا تنفع رؤية ، ولا يجدي إدراك ، ولا تقبل توبة ، ولا يحسب إيمان . وذلك الحق هو الذي كذبوا به فانتهوا إلى الأمر المريج ! . . وحين يدركونه ويصدقون به لا يجدي شيئا ولا يفيد !
وقوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ، يقول تعالى : وجاءت - أيها الإنسان - سكرة الموت بالحق ، أي : كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه ، { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي : هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ، ولا فكاك ولا خلاص .
وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ، فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو . وقيل : الكافر ، وقيل : غير ذلك .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا إبراهيم بن زياد - سَبَلان - أخبرنا عَبَّاد بن عَبَّاد عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص{[27298]} أن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : حضرت أبي وهو يموت ، وأنا جالسة عند رأسه ، فأخذته غشيةٌ فتمثلت ببيت من الشعر :
من لا يزال دمعه مُقَنَّعا *** فإنه لا بد مرةً {[27299]} مدقوق {[27300]}
قالت : فرفع رأسه فقال : يا بنية ، ليس كذلك ولكن كما قال تعالى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } .
وحدثنا{[27301]} خلف بن هشام ، حدثنا أبو شهاب [ الخياط ]{[27302]} ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن البهي قال : لما أن ثقل أبو بكر {[27303]} ، رضي الله عنه ، جاءت عائشة ، رضي الله عنها ، فتمثلت بهذا البيت :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر{[27304]}
فكشف عن وجهه وقال : ليس كذلك ، ولكن قولي : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } وقد أوردت لهذا الأثر طرقا [ كثيرة ]{[27305]} في سيرة الصديق عند ذكر وفاته ، رضي الله عنه .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : " سبحان الله ! إن للموت لسكرات " . وفي قوله : { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } قولان :
أحدهما : أن " ما " هاهنا موصولة ، أي : الذي كنت منه تحيد - بمعنى : تبتعد وتنأى وتفر - قد حل بك ونزل بساحتك .
والقول الثاني : أن " ما " نافية بمعنى : ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه .
وقد قال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ، حدثنا حفص بن عمر الحدي ، حدثنا معاذ بن محمد الهُذَلي ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن سَمُرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب ، تطلبه الأرض بدَيْن ، فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهر دخل جحره ، فقالت له الأرض : يا ثعلب ، ديني . فخرج وله حصاص ، فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات " {[27306]} .
ومضمون هذا المثل : كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ } .
وفي قوله : وَجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بالحَقّ وجهان من التأويل ، أحدهما : وجاءت سكرة الموت وهي شدّته وغلبته على فهم الإنسان ، كالسكرة من النوم أو الشراب بالحقّ من أمر الاَخرة ، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه . والثاني : وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت .
وقد ذُكر عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقّ بالمَوْتِ » . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن واصل ، عن أبي وائل ، قال : لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي ، قالت عائشة رضي الله عنها هذا ، كما قال الشاعر :
*** إذَا حَشْرَجَتْ يَوْما وَضَاقَ بِها الصّدْرُ ***
فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا تقولي ذلك ، ولكنه كما قال الله عزّ وجلّ : وَجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بالحَقّ ذلكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود . ولقراءة من قرأ ذلك كذلك من التأويل وجهان : :
أحدهما : وجاءت سكرة الله بالموت ، فيكون الحقّ هو الله تعالى ذكره . والثاني : أن تكون السكرة هي الموت أُضيفت إلى نفسها ، كما قيل : إنّ هذَا لهُوَ حَقّ اليَقِينِ . ويكون تأويل الكلام : وجاءت السكرةُ الحقّ بالموت .
وقوله : ذلكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ يقول : هذه السكرة التي جاءتك أيها الإنسان بالحقّ هو الشيء الذي كنت تهرب منه ، وعنه تروغ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.