ولكن انقسم الناس -بحسب الإيمان بالقرآن والانتفاع به- قسمين :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ } أي : اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل ، وتنزيهه من كل نقص وعيب . { وَاعْتَصَمُوا بِهِ } أي : لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرأوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم . { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي : فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة ، فيوفقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات ، ويدفع عنهم البليات والمكروهات .
{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي : يوفقهم للعلم والعمل ، معرفة الحق والعمل به .
أي : ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسك بكتابه ، منعهم من رحمته ، وحرمهم من فضله ، وخلى بينهم وبين أنفسهم ، فلم يهتدوا ، بل ضلوا ضلالا مبينا ، عقوبة لهم على تركهم الإيمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان ، نسأله تعالى العفو والعافية والمعافاة .
( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ، ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا ) . .
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به . . متى صح الإيمان ، ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له . فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده . وهو صاحب السلطان والقدرة وحده . . وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل . رحمة في هذه الحياة الدنيا - قبل الحياة الأخرى - وفضل في هذه العاجلة - قبل الفضل في الآجلة - فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود . كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه ؛ في كرامة وحرية ونظافة واستقامة - كما أسلفنا - حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته . عبد لله وسيد مع كل من عداه . . وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان - كما جاء به الإسلام - هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . حين يوحد الألوهية ؛ ويسوي بين الخلائق جميعا في العبودية . وحيث يجعل السلطان لله وحده والحاكمية لله وحده ؛ فلا يخضع بشر لتشريع بشر مثله ، فيكون عبدا له مهما تحرر !
فالذين آمنوا في رحمة من الله وفضل ، في حياتهم الحاضرة ، وفي حياتهم الآجلة سواء . .
ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا . .
وكلمة ( إليه ) . . تخلع على التعبير حركة مصورة . إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة ؛ وتقربهم إليه خطوة خطوة . . وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة ، فيعتصم به على ثقة . . حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي ؛ وتتنضح أمامه الطريق ؛ ويقترب فعلا من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم .
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فأما الذين صدّقوا بالله ، وأقرّوا بوحدانيته ، وما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الملل وَاعْتَصَمُوا بِهِ يقول : وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزل إلى نبيه كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَاعْتَصَمُوا بِهِ قال : بالقرآن .
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ يقول : فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته ، ويلحقهم من فضله ما ألحق أهل الإيمان به والتصديق برسله . وَيهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطا مُسْتَقِيما يقول : ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه ، ويسدّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته ، ولاقتفاء آثارهم ، واتباع دينهم . وذلك هو الصراط المستقيم ، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده ، وهو الإسلام . ونصب الصراط المستقيم على القطع من الهاء التي في قوله «إليه » .
ثم وعد تبارك وتعالى المؤمنين بالله ، المعتصمين به ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على القرآن الذي تضمنه قوله تعالى : { نوراً مبيناً } و «الاعتصام » به التمسك بسببه وطلب النجاة والمنعة به ، فهو يعصم كما تعصم المعاقل ، وهذا قد فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم : «القرآن حبل الله المتين من تمسك به عصم » و «الرحمة » و «الفضل » : الجنة وتنعيمها ، { ويهديهم } ، معناه : إلى الفضل ، وهذه هداية طريق الجنان ، كما قال تعالى : { سيهديهم ويصلح بالهم }{[4391]} لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه ، و { صراطاً } نصب بإضمار فعل يدل عليه { يهديهم } ، تقديره فيعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب كالمفعول الثاني : إذ { يهديهم } في معنى يعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب على ظرفية «ما » ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في { إليه } وقيل : من [ فضل ] والصراط : الطريق وقد تقدم تفسيره .
( أمّا ) في قوله : { فأما الذين آمنوا بالله } يجوز أن يكون للتفصيل : تفصيلاً لِمَا دَلّ عليه { يا أيها الناس } من اختلاف الفرق والنزعات : بين قابل للبرهان والنّور ، ومكابر جاحد ، ويكون مُعادل هذا الشقّ محذوفاً للتهويل ، أي : وأمَّا الذين كفروا فلا تسل عنهم ، ويجوز أن يكون ( أمّا ) لمجرد الشرط دون تفصيل ، وهو شرط لِعموم الأحوال ، لأنّ ( أمّا ) في الشرط بمعنى ( مَهما يكُنْ من شيء ) وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب معادلاً .
والاعتصام : اللوْذ ، والاعتصام بالله استعارة لللوذ بدينه ، وتقدّم في قوله { واعتصموا بحبل الله جميعاً } في سورة آل عمران ( 103 ) . والإدخال في الرحمة والفضل عبارة عن الرضى .
وقوله : ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } : تعلَّق الجار والمجرور ب ( يهدي ) فهو ظرف لَغو ، و { صراطاً } مفعول ( يهدي ) ، والمعنى يهديهم صراطاً مستقيماً ليصلوا إليه ، أي إلى الله ، وذلك هو متمنّاهم ، إذ قد علموا أنّ وعدهم عنده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.