{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا } أي : متاعا ، من أوان وفرش ، وبيوت ، وزخارف ، وأحسن رئيا ، أي : أحسن مرأى ومنظرا ، من غضارة العيش ، وسرور اللذات ، وحسن الصور ، فإذا كان هؤلاء المهلكون أحسن منهم أثاثا ورئيا ، ولم يمنعهم ذلك من حلول العقاب بهم ، فكيف يكون هؤلاء ، وهم أقل منهم وأذل ، معتصمين من العذاب { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } ؟ وعلم من هذا ، أن الاستدلال على خير الآخرة بخير الدنيا من أفسد الأدلة ، وأنه من طرق الكفار .
ويعقب السياق على قولة الكفار التياهين ، المتباهين بما هم فيه من مقام وزينة بلمسة وجدانية ترجع القلب إلى مصارع الغابرين ، على ما كانوا فيه من مقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين :
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا . .
فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم . ولم يعصمهم شيء من الله حين كتب عليهم الهلاك .
ألا إن هذا الإنسان لينسى . ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر ؛ ومصارع الغابرين من حوله تلفته بعنف وتنذره وتحذره ، وهو سادر فيما هو فيه ، غافل عما ينتظره مما لقيه من كانوا قبله وكانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا .
القول في تأويل قوله تعالى { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } .
يقول تعالى ذكره : وكم أهلكنا يا محمد قبل هؤلاء القائلين من أهل الكفر للمؤمنين ، إذا تُتلى عليهم آيات الرحمن ، أيّ الفريقين خير مقاما ، وأحسن نديا ، مجالس من قرن هم أكثر متاع منازل من هؤلاء ، وأحسن منهم منظرا وأجمل صورا ، فأهلكنا أموالهم ، وغيرنا صورهم ومن ذلك قول علقمة بن عبدة :
كُمَيْتٌ كَلَوْنِ الأُرْجُوَانِ نَشَرْتهُ *** لبَيْعِ الرّئيِ فِي الصّوَانِ المُكَعّبِ
يعني بالصوان : التخت الذي تصان فيه الثياب . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا قال : الرئي : المنظر ، والأثاث : المتاع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ عن شعبة عن سليمان عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : الرئي المنظر .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا يقول : منظرا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا الأثاث : المال ، والرّئي : المنظر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله أثاثا وَرِئْيا قال : الأثاث : أحسن المتاع ، والرّئي : قال : المال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، يقول الله تبارك وتعالى : وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ منْ قَرْنٍ هُمْ أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا : أي أكثر متاعا وأحسن منزلة ومستقرّا ، فأهلك الله أموالهم ، وأفسد صورهم عليهم تبارك وتعالى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا قال : أحسن صورا ، وأكثر أموالاً .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أثاثا قال : المتاع وَرِئْيا قال : فيما يرى الناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد وبشر بن معاذ ، قالا : حدثنا جرير بن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : الأثاث : المال ، والرّئي : المنظر الحسن .
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس وَرِئْيا : منظرا في اللون والحسن .
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاح ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس وَرِئيا منظرا في اللون والحسن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا قال : الرئي : المنظر ، والأثاث : المتاع ، أحسن متاعا ، وأحسن منظرا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : أحْسَنُ أثاثا يعني المال وَرِئْيا يعني : المنظر الحسن .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : «وَرِيّا » غير مهموز ، وذلك إذا قرىء كذلك يتوجه لوجهين : أحدهما : أن يكون قارئه أراد الهمزة ، فأبدل منها ياء ، فاجتمعت الياء المُبدلة من الهمز والياء التي هي لام الفعل ، فأدغمتا ، فجعلتا ياء واحدة مشددة ليُلْحِقُوا ذلك ، إذ كان رأس آية ، بنظائره من سائر رؤوس الاَيات قبله وبعده والاَخر أن يكون من رويت أروي روية وريّا ، وإذا أريد به ذلك كان معنى الكلام : وكم أهلكنا قبلهم من قرن ، هم أحسن متاعا ، وأحسن نظرا لماله ، ومعرفة لتدبيره وذلك أن العرب تقول : ما أحسن رؤية فلان في هذا الأمر إذا كان حسن النظر فيه والمعرفة به . وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق والكوفة والبصرة وَرِئْيا بهمزها ، بمعنى : رؤية العين ، كأنه أراد : أحسن متاعا ومَرآة . وحُكي عن بعضهم أنه قرأ : «أحسن أثاثا وزيا » ، بالزاي ، كأنه أراد أحسن متاعا وهيئة ومنظرا ، وذلك أن الزيّ هو الهيئة والمنظر من قولهم : زيّيت الجارية ، بمعنى : زينتها وهيأتها .
قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ أثاثا وَرِئْيا بالراء والهمز ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن معناه : المنظر ، وذلك هو من رؤية العين ، لا من الروية ، فلذلك كان المهموز أولى به ، فإن قرأ قارىء ذلك بترك الهمز ، وهو يريد هذا المعنى ، فغير مخطىء في قراءته . وأما قراءته بالزاي فقراءة خارجة ، عن قراءة القرّاء ، فلا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءتهم ، وإن كان لهم في التأويل وجه صحيح .
واختلف أهل العربية في الأثاث أجمع هو أم واحد ، فكان الأحمر فيما ذُكر لي عنه يقول : هو جمع ، واحدتها أثاثه ، كما الحمام جمع واحدتها حمامة ، والسحاب جمع واحدتها سحابة . وأما الفراء فإنه كان يقول : لا واحد له ، كما أن المتاع لا واحد له . قال : والعرب تجمع المتاع : أمتعة ، وأماتيع ، ومتع . قال : ولو جمعت الأثاث لقلت : ثلاثة آثّةٍ وأثث . وأما الرئي فإن جمعه : آراء .
وقوله { وكم } مخاطبة من الله تعالى لمحمد خبر يتضمن كسر حجتهم واحتقار أمرهم لأن التقدير : هذا الذي افتخروا به لا قدر له عند الله وليس بمنج لهم فكم أهلك الله من الأمم لما كفروا وهو أشد من هؤلاء وأكثر أموالاً وأجمل منظراً . و «القرن » الأمة يجمعها العصر الواحد ، واختلف الناس في قدر المدة التي اذا اجتمعت لأمة سميت تلك الامة قرناً ، فقيل مائة سنة ، وقيل ثمانون ، وقيل سبعون ، وقد تقدم القول في هذا غير مرة ، و «الأثاث » المال العين والعرض والحيوان وهو اسم عام واختلف هل هو جمع أو إفراد . فقال الفراء : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالمتاع ، وقال خلف الأحمر : هو جمع واحدة أثاثة كحمامة وحمام ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
أشاقتك الظعائن يوم بانوا . . . بذي الزي الجميل من الأثاث{[8023]}
لقد علمت عرينة حيث كانت . . . بأنا نحن أكثرهم أثاثاً{[8024]}
وقرأ نافع بخلاف وأهل المدينة «وريّاً » بياء مشددة ، وقرأ ابن عباس فيما روي عنه وطلحة «وريا » بياء مخففة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «ورءياً » بهمزة بعدها ياء على وزن رعياً ، ورويت عن نافع وابن عامر رواها أشهب عن نافع وقرأ أبو بكر عن عاصم «وريئاً » بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب وزنه فلعاً وكأنه من راع وقال الشاعر : [ الطويل ]
وكل خليل راءني فهو قائل . . . من اجلك هذا هامة اليوم أو غد{[8025]}
فأما القراءتان المهموزتان فهما من رؤية العين الرئي اسم المرئي والظاهر للعين كالطحن والسقي ، قال ابن عباس الرئي المنظر قال الحسن «ورياً » معناه صوراً وأما المشددة الياء فقيل هي بمعنى المهموزة إلا أن الهمزة خففت لتستوي رؤوس الآي ، وذكر منذر بن سعيد عن بعض أهل العلم أنه من «الري » في السقي كأنه أراد أنهم خير منهم بلاداً وأطيب أرضاً وأكثر نعماً إذ جملة النعم إنما هي من الري والمطر ، وأما القراءة المخففة الياء فضعيفة الوجه ، وقد قيل هي لحن ، وقرأ سعيد بن جبير ويزيد البربري وابن عباس أيضاً «وزياً » بالزاي وهو بمعنى الملبس وهيئته تقول زييت بمعنى زينت{[8026]} .
ابن كثير: قال مالك: {أثاثا ورءيا} أكثر أموالا وأحسن صورا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكم أهلكنا يا محمد قبل هؤلاء القائلين من أهل الكفر للمؤمنين، إذا تُتلى عليهم آيات الرحمن، أيّ الفريقين خير مقاما، وأحسن نديا، مجالس من قرن هم أكثر متاع منازل من هؤلاء، وأحسن منهم منظرا وأجمل صورا، فأهلكنا أموالهم، وغيرنا صورهم... عن ابن عباس "أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا "قال: الرئي: المنظر، والأثاث: المتاع...
عن الحسن، في قوله أثاثا وَرِئْيا قال: الأثاث: أحسن المتاع، والرّئي: قال: المال... عن قتادة، قوله أحْسَنُ أثاثا وَرِئْيا قال: أحسن صورا، وأكثر أموالاً...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أخبرهم بما عرفوا هم أنهم كانوا أهل السعة والزينة، ثم أهلكوا بتكذيبهم الرسل وعصيانهم ربهم. فلو كان ما ذكر هؤلاء الكفرة لكانوا لا يهلكون، فيلزمهم بما ذكر أن من وسع عليه الدنيا، وضيق عليه الآخرة، إنما يكون بحق المحنة لا بحق المنزلة والقدر. وأما الثواب والجزاء فهو حق القدر والجزاء والمنزلة والخذلان...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي إن هؤلاء ينخرطون في سِلْكِ مَنْ تَقَدَّمهم، كما سلكوا في الريب منهاجهم، وسَيَلْقَوْن ما يستوجبونه على سوء أعمالهم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
... قيل: الري من الارتواء، والمتنعم يظهر فيه ارتواء النعمة، والفقير يظهر عليه ذبول البؤس والفقر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وكم} مخاطبة من الله تعالى لمحمد خبر يتضمن كسر حجتهم واحتقار أمرهم لأن التقدير: هذا الذي افتخروا به لا قدر له عند الله وليس بمنج لهم فكم أهلك الله من الأمم لما كفروا وهو أشد من هؤلاء وأكثر أموالاً وأجمل منظراً. و «القرن» الأمة يجمعها العصر الواحد، واختلف الناس في قدر المدة التي اذا اجتمعت لأمة سميت تلك الأمة قرناً، فقيل مائة سنة، وقيل ثمانون، وقيل سبعون، وقد تقدم القول في هذا غير مرة، و «الأثاث» المال العين والعرض والحيوان وهو اسم عام واختلف هل هو جمع أو إفراد. فقال الفراء: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالمتاع، وذكر منذر بن سعيد عن بعض أهل العلم أنه من «الري» في السقي كأنه أراد أنهم خير منهم بلاداً وأطيب أرضاً وأكثر نعماً إذ جملة النعم إنما هي من الري والمطر...
وقرأ سعيد بن جبير ويزيد البربري وابن عباس أيضاً «وزياً» بالزاي وهو بمعنى الملبس وهيئته تقول زييت بمعنى زينت...
وتقرير هذا الجواب أن يقال: إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم، فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيبا لله تعالى لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غما في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحدا من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى وهي أن من وجد الدنيا كان حبيبا لله تعالى، أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غما، وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة،...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ثم ذكر تعالى كثرة ما أهلك من القرون ممن كان أحسن حالاً منهم في الدنيا تنبيهاً على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم كما فعل بغيرهم واتعاظاً لهم إن كانوا ممن يتعظ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من حسن الأثاث والري، ويعني إهلاك تكذيب لما جاءت به الرسل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وكم أهلكنا} بما لنا من العظمة. ولما كان المراد استغراق الزمان، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال: {قبلهم من قرن} أي شاهدوا ديارهم، ورأوا آثارهم؛ ثم وصف كم بقوله: {هم} أي أهل تلك القرون {أحسن} من هؤلاء {أثاثاً} أي أمتعة {ورئياً} أي منظراً.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
أي كثيراً من القرون التي كانت أفضلَ منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم من الأمم العاتيةِ قبل هؤلاء أهلكناهم بفنون العذاب، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى، كأنه قيل: فلينتظِرْ هؤلاءِ أيضاً مثلَ ذلك (فكم) مفعولُ أهلكنا و (من قرن) بيانٌ لإبهامها، وأهلُ كل عصرٍ قَرنٌ لمن بعدهم لأنهم يتقدّمونهم، مأخوذٌ من قَرْن الدابة وهو مقدّمها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا} أي: متاعا، من أوان وفرش، وبيوت، وزخارف، وأحسن رئيا، أي: أحسن مرأى ومنظرا، من غضارة العيش، وسرور اللذات، وحسن الصور، فإذا كان هؤلاء المهلكون أحسن منهم أثاثا ورئيا، ولم يمنعهم ذلك من حلول العقاب بهم، فكيف يكون هؤلاء، وهم أقل منهم وأذل، معتصمين من العذاب {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعقب السياق على قولة الكفار التياهين، المتباهين بما هم فيه من مقام وزينة بلمسة وجدانية ترجع القلب إلى مصارع الغابرين، على ما كانوا فيه من مقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين: وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا.. فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم. ولم يعصمهم شيء من الله حين كتب عليهم الهلاك. ألا إن هذا الإنسان لينسى. ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر؛ ومصارع الغابرين من حوله تلفته بعنف وتنذره وتحذره، وهو سادر فيما هو فيه، غافل عما ينتظره مما لقيه من كانوا قبله وكانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} خطاب من الله لرسوله. وقد أهلك الله أهل قرون كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعاً وأجمل منهم منظراً. فهذه الجملة معترضة بين حكاية قولهم وبين تلقين النبي صلى الله عليه وسلم ما يجيبهم به عن قولهم، وموقعها التهديد وما بعدها هو الجواب.
يريد أن يدلل على أنهم حمقى لا ينظرون إلى واقع الحياة ليروا عاقبة من كانوا أعز منهم مكاناً ومكانة، وكيف صار الأمر إليهم؟ الحق تبارك وتعالى يرد على الكفار ادعاءهم الخيرية على المؤمنين، فهذه الخيرية ليست بذاتيتكم، بل هي عطاء من الله وفتنة، حتى إذا أخذكم أخذكم عن عزة وجاه؛ ليكون أنكى لهم وأشد وأغيظ، أما إن أخذهم على حال ذلة وهوان لم يكن لأخذه هذا الأثر فيهم. فالحق سبحانه يملي لهم بنعمه ليستشرفوا الخير ثم يأخذهم. فأطمعهم في البداية، ثم أخذهم وخيب آمالهم في النهاية. إذن: حينما تجرون مقارنة بينكم وبين المؤمنين وتعيرونهم بما معكم من زينة الدنيا، فقد قارنتم الوسائل وطرحتم الغايات...
وقد عزل الكفار الوسيلة في الدنيا عن الغاية في الآخرة، فتباهوا وعيروا المؤمنين: {أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا "73 "} (سورة مريم)...
فكان عليهم ألا ينظروا إلى الوسيلة منفصلة عن غايتها. وهنا يرد الحق تبارك وتعالى على هؤلاء المغترين بنعمة الله: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا}:... وهلاك هؤلاء وأمثالهم سهل لا يكلف الحق سبحانه إلا أن تهب عليهم عواصف الرمال، فتطمس حضارتهم، وتجعلهم أثراً بعد عين...
فدعاهم إلى النظر في التاريخ، والتأمل في عاقبة أمثالهم من الكفرة والمكذبين، وما عساه أن يغني عنهم من المقام والندى الذي يتباهون به، وهل وسائل الدنيا هذه تدفع عنهم الغاية التي تنتظرهم في الآخرة؟... فإنما يحثهم على أخذ العبرة والعظة ممن سبقوهم، ويستدل بواقع شيء حاضر على صدق غيبٍ آت، فالحضارات التي سبقتهم والتي لم يوجد مثلهم في البلاد، وكان من صفاتها كذا وكذا، ماذا حدث لهم؟ فهل أنتم أشد منهم قوة؟ وهل تمنعون عن أنفسكم ما نزل بغيركم من المكذبين؟... فإياكم أن تغركم ظواهر الأشياء، أو تخدعكم برقات النعيم وانظروا إلى الغايات والنهايات؛ لذلك يقول سبحانه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} (الكهف46)...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِلاّ أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماماً، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم، فيقول: كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم، ومجالسهم الفاسقة، وملابسهم الفاخرة، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإِلهي وتقف أمامه؟ وإِذا كانت هذه الأُمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله، فلماذا ابتُلوا بهذا المصير المشؤوم؟ إِنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ...