الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ أَثَٰثٗا وَرِءۡيٗا} (74)

قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } : " كم " مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم ؛ لأنَّ له صدرَ الكلامِ لأنها إمَّا : استفهاميةٌ أو خبريةٌ ، وهي محمولةٌ على الاستفهاميةِ ، و " أَهلَكْنا " مُتَسَلِّطٌ على " كم " أي : كثيراً من القرون أَهْلَكْنا . و " مِنْ قَرنٍ " تمييزٌ ل " كَمْ " مُبَيِّنٌ لها .

قوله : { هُمْ أَحْسَنُ } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدهما :- وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء - أنَّها في محلِّ نصب ، صفةً ل " كم " . قال الزمخشري : " ألا ترى أنَّك لو أَسْقَطْتَ " هم " لم يكن لك بَدٌّ مِنْ نصبِ " أحسنُ " على الوصفية " . وفي هذا نظرٌ لأنَّ النَّحْويين نَصُّوا : على أنَّ " كم " استفهاميةٌ كانت أو خبريةً لا تُوْصَفُ ولا يُوْصَفُ بها . الثاني : أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل " قَرْن " ولا محذورَ في هذا ، وإنما جُمِعَ في قوله : " هم " لأنَّ قَرْناً وإن كان لفظُه مفرداً فمعناه جمعٌ ، ف " قَرْن " كلفظِ " جميع " و " جميع " يجوز مراعاةُ لفظِه تارةً فيُفْرَدُ كقولِه تعالى : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] ومراعاةُ معناه أخرى فيُجمع مالَه كقوله تعالى : { لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] .

قوله : " ورِئْياً " الجمهورُ على " رِئْياً " الجمهورُ على " رِئْيا " بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً ، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز ، ثم له بعد ذلك وجهان : الإِظهارُ اعتباراً بالأصل ، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى ، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى : وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة ، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه .

وقرأ قالون عن نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر " ورِيَّا " بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ ، فقيل : هي مهموزةُ الأصلِ ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ . والرَّأْيُ بالهمز ، قيل : مِنْ رُؤْية العَيْن ، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول ، أي : مَرْئِيٌّ . وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر . وقيل : بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ ، والمعنى : أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما .

وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى " وَرِيْئاً " بياءٍ ساكنةٍ بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ " رِئْياً " في قراءةِ العامَّةِ ، ووزنه فِلْعٌ ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر :

وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ *** مِنَ أجلِكَ : هذا هامةُ اليومِ أوغدِ

وفي القلب من القلبِ ما فيه .

ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ " ورِياء " بياءٍ بعدها ألف ، بعدها همزة ، وهي من المُراءاة ، أي : يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً ، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ .

وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة " وَرِيَاً " بياء فقط مخففةٍ . ولها وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ أصلُها كقراءةِ قالون ، ثم خَفَّفَ الكلمةَ بحذفِ إحدى الياءَيْن ، وهي الثانيةُ لأنَّ بها حَصَلَ الثِّقَلُ ، ولأنَّها لامُ الكلمةِ ، والأواخرُ أَحْرَى بالتغيير . والثاني : أن يكونَ أصلُها كقراءةِ حميد " وَرِيْئا " بالقلب ، ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الياءِ قبلها ، وحَذَفَ الهمزةَ على قاعدةِ تخفيفِ الهمزةِ بالنقل ، فصار " وَرِيا " كما ترى . وتجاسَرَ بعضُ الناسِ فجعل هذه القراءة لَحْناً ، وليس اللاحنُ غيرَه ، لخَفَاءِ توجيهِها عليه .

وقرأ ابن عباس أيضاً وابنُ جُبَيْر وجماعةٌ " وزِيَّا " بزايٍ وياءٍ مشددة ، والزَّيُّ : البِزَّة الحسنة والآلاتُ المجتمعة ، لأنه مِنْ زَوَى كذا يَزْوِيه ، أي : يَجْمعه ، والمُتَزَيِّنُ يَجْمع الأشياء التي تُزَيِّنه وتُظْهِرُ زِيَّه .