قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } . " كَم " {[22253]} مفعول مقدم{[22254]} ، واجب التقديم ، لأنَّ له مصدر الكلام ، لأنها إمَّا استفهامية أو خبرية ، وهي محمولة على الاستفهامية{[22255]} .
و " أهْلَكْنَا " متسلط على " كَمْ " ، أي : كثير من القرون أهلكنا .
و " مِنْ قَرْنٍ " تمييز ل " كَمْ " مبين لها{[22256]} .
قوله : { هُمْ أحْسَنُ } في هذه الجملة وجهان :
أحدهما{[22257]} : وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء : أنَّه{[22258]} في محل نصب صفة ل " كَمْ " {[22259]} قال الزمخشري : ألا ترى أنك لو أسقطت " هُمْ " لم يكن بُدّ من نصب " أحْسَنُ " على الوصفية{[22260]} .
وفي هذا نظرٌ ، لأنَّ النحويين نصوا على أنَّ " كَمْ " الاستفهامية والخبرية لا تُوصف ولا يُوصف بها{[22261]} .
الثاني : أنها في محل جرّ صفة ل " قَرْن " ، ولا محذور في هذا{[22262]} . وإنما جمع في قوله : " هُمْ " ، لأنَّ " قَرْنٍ " وإنْ كَانَ لَفظهُ " {[22263]} مفرداً فمعناه جمع{[22264]} ، ف " قَرْن " كلفظ " جَمِيع " ، و " جَمِيع " يجوز مراعاة لفظه تارة فيفرد{[22265]} كقوله تعالى { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ }{[22266]} ، ومراعاة معناه أخرى فيجمع كقوله : { لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }{[22267]} {[22268]} [ يس : 32 ] .
فصل{[22269]}
لمَّا ذكروا شبهتهم أجاب الله{[22270]} عنها بقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } أي : متاعاً وأموالاً .
قوله : " ورئيا " {[22271]} الجمهور على " رِئْياً " {[22272]} بهمزة ساكنة بعدها ياء صريحة وصلاً ووقفاً{[22273]} . وحمزة إذا وقف يبدل هذه الهمزة ياء{[22274]} على أصله في تخفيف الهمز ، ثم له بعد ذلك وجهان{[22275]} : الإظهار اعتباراً بالأصل ، والإدغام اعتباراً باللفظ{[22276]} .
وفي الإظهار صعوبة لا تَخْفَى ، وفي الإدغام إيهام أنَّها مادة أخرى ، وهو الريُّ الذي هو بمعنى الامتلاء والنضارة ، ولذلك ترك أبو عمرو أصله{[22277]} في تخفيف الهمزة{[22278]} .
وقرأ قالون{[22279]} عن نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر " ورِيًّا " بياء مشددة بعد الراء{[22280]} .
فقيل : هي مهموزة الأصل ، ثم أبدلتِ الهمزةُ ياء ، وأدغمتْ{[22281]} . والرِّئْيُ بالهمز{[22282]} وقيل : من رؤية العين ، وفعلٌ فيه معنى مفعول أي : مَرْئِيٌّ{[22283]} . وقيل : من الرواء وحسن المنظر{[22284]} . وقيل : بل هو من الريّ ضد العطش ، وليس مهموز الأصل{[22285]} ، والمعنى : أحسن منظراً ، لأنَّ الريّ والامتلاء أحسن من ضديهما ، ومعناه الارتواء من النعمة{[22286]} ، فإنَّ المُنْعم يظهر فيه ارتواء النعمة ، والفقير يظهر عليه ذبول الفقر . وقرأ حميد{[22287]} وأبو بكر{[22288]} عن عاصم في رواية الأعمش : وَرِيْئَا " بياء ساكنة بعدها همزة{[22289]} وهو مقلوب{[22290]} من " رِئْياً " في قراءة العامة{[22291]} ، ووزنه " فِلْع " {[22292]} ، وهو من وراءه يراؤه كقول الشاعر :
وكُلُّ خليلٍ رَاءَنِي فَهُوَ قَائِلٌ *** من أجْلِكِ{[22293]} هذا هامةُ{[22294]} اليَوْمِ أوْ غَدِ{[22295]}
وفي القلب من القلب ما فيه . وروى اليزيدي{[22296]} قراءة " ورَيَاء " بياء بعدها ألف " بعدها همزة " {[22297]} ، وهي المراءاة ، أي : يرى بعضهم حسن بعض{[22298]} ، ثم خفف الهمزة الأولى بقلبها ياء{[22299]} ، وهو تخفيف قياسي{[22300]} .
" وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة " وَرِياً " بياء فقط مخففة{[22301]} ، ولها وجهان :
أحدهما : أن يكون " {[22302]} أصلها كقراءة قالون{[22303]} ، ثم خففت الكلمة بحذف إحدى الياءين ، وهي الثانية ، لأنَّ بها حصل الثقل{[22304]} ، ولأنها لام الكلمة ، والأواخر أحرى بالتغيير{[22305]} .
والثاني : أن يكون أصلها كقراءة حميد " وَرَيْئاً " {[22306]} بالقلب ، ثم نقل حركة الهمزة{[22307]} إلى الياء قبلها ، وحذف الهمزة على قاعدة تخفيف الهمزة بالنقل ، فصار " وَرِياً " كما ترى{[22308]} . وتجاسر{[22309]} بعضهم فجعل هذه القراءة لحناً ، وليس اللاحن{[22310]} غيره ، لخفاء توجيهها عليه{[22311]} . وقرأ ابن عباس -أيضاً- وابن جبير وجماعة " وَزِياً " بزاي وياء مشددة{[22312]} .
والزِّيّ : البِزَّةُ{[22313]} الحسنة والآلات المجتمعة{[22314]} ، لأنه{[22315]} من زَوَى كذا يَزْوِيهِ ، أي : يجمعه ، والمتزين يجمع الأشياء التي تزينه وتظهر زيَّه{[22316]} .
[22254]:انظر الكشاف 2/420، البيان 2/133، التبيان 2/879، البحر المحيط 6/210.
[22255]:لزوم التصدير من الأمور التي تشترك فيها (كم) الخبرية والاستفهامية. المغني 1/183.
[22256]:انظر الكشاف 2/420، البحر المحيط 6/210.
[22259]:الكشاف 2/240، التبيان 2/879.
[22261]:الأسماء التي لا تنعت ولا ينعت بها الضمير، أسماء الشرط، أسماء الاستفهام وكم الخبرية، وما التعجيبية، وقبل وبعد. المقرب 224. البحر المحيط 6/210.
[22264]:لأن القرن مشتمل على أفراد كثيرة، لأنه الأمة يجمعها العصر الواحد، واختلف في مدته فقيل: مائة سنة، وقيل: ثمانون، وقيل تسعون.
[22265]:في ب: فيجمع ويفرد. وهو تحريف.
[22273]:السبعة (411)، الحجة لابن خالويه (239)، الكشف 2/91. الإتحاف (300).
[22276]:الكشف 2/91، الإتحاف ((/65).
[22278]:قال ابن الأنباري: (وكان من مذهب أبي عمرو ترك الهمزة الساكنة إلا في هذا الموضع، وقال: خفت أن يلتبس بالري من الماء فهمزت لأنه أريد حسن المنظر والشارة) البيان 2/133.
[22279]:هو عيسى بن مينا بن وردان، أبو موسى الملقب قالون، قارئ المدينة، ونحويها، قرأ على نافع، وأخذ القراءة عرضا عن نافع، وأبي جعفر، وعرض على عيسى بن وردان، روى القراءة عنه إبراهيم، وأحمد ابناه، وإبراهيم بن الحسن الكسائي، وغيرهم. مات سنة 220 هـ. طبقات القراء 1/615-616.
[22280]:السبعة (411-412)، الحجة لابن خالويه (239)، الكشف 2/91، الإتحاف (300).
[22281]:أصل "وريّا" بياء مشددة بعد الراء "ورئيا" خففت الهمزة بإبدالها ياء، لسكونها وانكسار ما قبلها وأدغمت الياء المبدلة من الهمزة في الياء الثانية التي هي لام، فصار "وريّا"، لأنه في الأصل فعل من (رأيت). الكتاب 3/543-544، المحتسب 2/44، البيان 2/134، التبيان 2/880.
[22282]:في ب: الراء بالهمز. وهو تحريف.
[22283]:لأن المصدر قد يجيء ويراد به المفعول، كقولهم: ضرب الأمير، أي: مضروبه. شرح المفصل 6/50.
[22284]:أي أنه يجوز أن يكون من الرواء، وهو ما يظهر من الزي في اللباس وغيره، فيكون أصله الهمز، ولكن خففت الهمزة، فأبدل منها ياء. الكشف 2/91.
[22285]:فيكون أصل "وريّا" (ورِوْيٌ) من رويت، فأبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وهي مفردة، وأدغمت الياء في الياء. المحتسب 2/44، التبيان 2/880، البحر المحيط 6/210.
[22287]:في ب: أبو حميد. وهو تحريف. وهو حميد بن قيس الأعرج، أبو سفيان المكي، القارئ. أخذ القراءة عن مجاهد بن جبير، روى القراءة عنه سفيان بن عيينة، وأبو عمرو بن العلاء، وغيرهما، مات سنة 130 هـ. طبقات القراء 1/265.
[22289]:السبعة (411)، تفسير ابن عطية 9/520، البحر المحيط 6/210.
[22290]:القلب المكاني: هو تقديم بعض حروف الكلمة على بعض، مع اتفاق المعنى في الحالين كما في كلمة (أوباش)، فإنها مقلوبة عن كلمة (أوشاب)، وهما بمعنى واحد، وهم الأخلاط من الناس، والقلب في (ريئا) من (رئيا) بتقديم اللام على العين. القلب المكاني في ضوء الفكر اللغوي (4-5).
[22292]:البيان 2/134، التبيان 2/880، البحر المحيط 6/210-211.
[22295]:البيت من بحر الطويل، قاله كثير عزة، اللسان (رأى، هوم).
[22296]:هو يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي، أبو محمد اليزيدي، النحوي، المقرئ اللغوي، أخذ عن الخليل اللغة، والعروض، وكان أحد القراء الفصحاء العالمين بلغة العرب، والنحو، وصنف مختصرا في النحو، والمقصور والممدود، النقط والشكل، النوادر مات سنة 202 هـ. بغية الوعاة 6/340.
[22298]:المختصر (86)، البحر المحيط 6/211.
[22300]:أي أن أصل (ورياء) و(رئاء)، خففت الهمزة الأولى بإبدالها ياء، لأن كل همزة مفتوحة وكان قبلها حرف مكسور، فإنك تبدل مكانها ياء في التخفيف، وذلك قولك في المئر: مير، وفي يريد أن يقرئك: يقريك ومن ذلك: من غلام يبيك، إذا أردت من غلام أبيك. الكتاب 3/543.
[22301]:المحتسب 2/43، البحر المحيط 6/211.
[22304]:في ب: حذف النقل. وهو تحريف.
[22307]:في ب: ثم سكن حركة الهمزة ونقلها. وهو تحريف.
[22308]:انظر المحتسب 2/44-45، البحر المحيط 6/211.
[22309]:جسر على كذا يجسر جسارة وتجاسر عليه: أقدم، وتجاسر: تطاول. اللسان (جسر).
[22312]:المحتسب 2/44، البحر المحيط 6/211. وأصلها "زِوْي"، قلبت الواو ياء، لسكونها، وهي مفردة وانكسر ما قبلها وأدغمت الياء في الياء فصار "وَزِيّا" المحتسب 2/45، البيان 2/134، التبيان 2/880،.
[22313]:في ب: والزاي: العزة. وهو تحريف. والبَّزة: الهيئة والشارة واللّبسة. اللسان (بزز).