{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } أي : الرؤساء الذين قد كبر جرمهم ، واشتد طغيانهم { لِيَمْكُرُوا فِيهَا } بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان ، ومحاربة الرسل وأتباعهم ، بالقول والفعل ، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم ، لأنهم يمكرون ، ويمكر الله والله خير الماكرين .
وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم ، يناضلون هؤلاء المجرمين ، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله ، ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك ، ويعينهم الله ويسدد رأيهم ، ويثبت أقدامهم ، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم ، حتى يدول الأمر في عاقبته بنصرهم وظهورهم ، والعاقبة للمتقين .
وبنفس الطريقة ، ولنفس الأسباب ، وعلى هذه القاعدة جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . . ليتم الابتلاء ؛ وينفذ القدر ؛ وتتحقق الحكمة ؛ ويمضي كل فيما هو ميسر له ، وينال كل جزاءه في نهاية المطاف :
( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ) .
إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية - وهي المدينة الكبيرة والعاصمة - نفر من أكابر المجرمين فيها ، يقفون موقف العداء من دين الله . ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس ، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس ، ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب ، ويرد هذا كله إلى الله وحده . . رب الناس . . ملك الناس . . إله الناس . .
إنها سنة من أصل الفطرة . . أن يرسل الله رسله بالحق . . بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية . فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله . ثم يمكرون مكرهم في القرى ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى ، وفي نشر الباطل والضلال ، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي . .
إنها سنة جارية . ومعركة محتومة . لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله - وهي رد الحاكمية كلها لله - وبين أطماع المجرمين في القرى . بل بين وجودهم أصلاً . .
معركة لا مفر للنبي أن يخوضها ، فهو لا يملك أن يتقيها ، ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها . . والله سبحانه يطمئن أولياءه . . إن كيد أكابر المجرمين - مهما ضخم واستطال - لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف . إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها ، وهو حسبهم ، وهو يرد على الكائدين كيدهم :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون ، كذلك جعلنا بكلّ قرية عظماءها مجرميها ، يعني : أهل الشرك بالله والمعصية له لِيَمْكُرُوا فِيها بغرور من القول أو بباطل من الفعل بدين الله وأنبيائه . وَما يَمْكُرُونَ : أي ما يحيق مكرهم ذلك ، إلاّ بأنْفُسِهِمْ ، لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله . وهم لا يشعرون ، يقول : لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه ، فهم في غيهم وعتوّهم على الله يتمادون .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أكابِرَ مُجْرِمِيها قال : عظماءها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أكابِرَ مُجْرِمِيها قال : عظماءها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : نزلت في المستهزئين . قال ابن جريج : عن عمرو ، عن عطاء ، عن عكرمة : أكابِرَ مُجْرِمِيها . . . إلى قوله : بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ بدين الله وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين .
والأكابر : جمع أكبر ، كما الأفاضل : جمع أفضل . ولو قيل : هو جمع كبير ، فجمع أكابر ، لأنه قد يقال أكبر ، كما قيل : قُلْ هُلْ أُنَبّئُكُمْ بالأخْسَرِينَ أعَمالاً واحدهم الخاسر لكان صوابا . وحُكي عن العرب سماعا : الأكابرة والأصاغرة ، والأكابر والأصاغر بغير الهاء على نية النعت ، كما يقال : هو أفضل منك . وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على «أفعل » إذا أخرجوها إلى الأسماء ، مثل جمعهم الأحمر والأسود : الأحامر والأحامرة ، والأساود والأساودة ومنه قول الشاعر :
إنّ الأحامِرَةَ الثّلاثَةَ أهْلَكَتْ ***مالي وكنتُ بِهِنّ قِدْما مُولَعَا
الخَمْرُ واللّحْمُ السّمِينُ أُدِيمُهُ ***والزّعفرانُ فلَنْ أزالَ مُبَقّعَا
وأما المكر : فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالقدر ليورّطه الماكر به مكروها من الأمر .
{ وكذلك جعلنا في كل قرية } وهذه الآية تتضمن إنذاراً بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم ، لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظرائهم ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في المستهزئين .
قال القاضي أبو محمد : يعني أن التمثيل لهم ، و { جعلنا } في هذه الآية بمعنى صيرنا ، فهي تتعدى إلى مفعولين الأول { مجرميها } والثاني { أكابر } وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ، وقدم الأهم إذ لعلة كبرهم أجرموا ، ويصح أن يكون المفعول الأول { أكابر } و { مجرميها } مضاف ، والمفعول الثاني في قوله { في كل قرية } و { ليمكروا } نصب بلام الصيرورة ، والأكابر جمع أكبر كما الأفاضل جمع أفضل ، ويقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة ، ومنهم قول الشاعر [ الأعشى ] : [ الكامل ]
إنَّ الأَحَامِرَة الثّلاثة أتْلَفَتْ . . . مالي وكنتُ بهنَّ قَِدْماً مُولَعا{[5078]}
يريد الخمر واللحم والزعفران ، و «المكر » التخيل بالباطل والخديعة ونحوهما ، وقوله { وما يمكرون إلا بأنفسهم } يريد لرجوع وبال ذلك عليهم ، { وما يشعرون } أي ما يعلمون ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار وهو الشيء الذي يلي البدن ، فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس ، وفي ذلك مبالغة في صفة جهله ، إذ البهائم تعلم علوم الحس وأما هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.