{ 120 } { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } المراد بالإثم : جميع المعاصي ، التي تؤثم العبد ، أي : توقعه في الإثم ، والحرج ، من الأشياء المتعلقة بحقوق الله ، وحقوق عباده . فنهى الله عباده ، عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن ، أي : السر والعلانية ، المتعلقة بالبدن والجوارح ، والمتعلقة بالقلب ، ولا يتم للعبد ، ترك المعاصي الظاهرة والباطنة ، إلا بعد معرفتها ، والبحث عنها ، فيكون البحث عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن ، والعلمُ بذلك واجبا متعينا على المكلف .
وكثير من الناس ، تخفى عليه كثير من المعاصي ، خصوصا معاصي القلب ، كالكبر والعجب والرياء ، ونحو ذلك ، حتى إنه يكون به كثير منها ، وهو لا يحس به ولا يشعر ، وهذا من الإعراض عن العلم ، وعدم البصيرة .
ثم أخبر تعالى ، أن الذين يكسبون الإثم الظاهر والباطن ، سيجزون على حسب كسبهم ، وعلى قدر ذنوبهم ، قلَّت أو كثرت ، وهذا الجزاء يكون في الآخرة ، وقد يكون في الدنيا ، يعاقب العبد ، فيخفف عنه بذلك من سيئاته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ودعوا أيها الناس علانية الإثم وذلك ظاهره ، وسرّه وذلك باطنه . كذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ ، أي : قليله وكثيره وسرّه وعلانيته .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ ، قال : سرّه وعلانيته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ يقول : سره وعلانتيه ، وقوله : ما ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قال : سرّه وعلانيته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثمِ وَباطَنهُ ، قال : نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه أن يُعمل به سرّا ، أو علانية ، وذلك ظاهره وباطنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ معصية الله في السرّ والعلانية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ قال : هو ما ينوي مما هو عامل .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالظاهر من الإثم والباطن منه في هذا الموضع ، فقال بعضهم : الظاهر منه : ما حرّم جلّ ثناؤه بقوله : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ ، قوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ . . . الاَية ، والباطن منه الزنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ قال : الظاهر منه : لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ والأمهات ، والبنات والأخوات . والباطن : الزنا .
وقال آخرون : الظاهر : أولات الرايات من الزواني . والباطن : ذوات الأخدان .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ } أما ظاهره : فالزواني في الحوانيت . وأما باطنه : فالصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرّا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَلا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْهَا وَما بَطَنَ }كان أهل الجاهلية يستسّرون بالزنا ، ويرون ذلك حلالاً ما كان سرّا ، فحرّم الله السرّ منه والعلانية . ما ظهر مها : يعني العلانية ، وما بطن : يعني السرّ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين وأبيه ، عن خصيف ، عن مجاهد : { لا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ }قال : ما ظهر منها : الجمع بين الأختين ، وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده . وما بطن : الزنا .
وقال آخرون : الظاهر : التعرّي والتجرّد من الثياب وما يستر العورة في الطواف . والباطن : الزنا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ }قال : ظاهره العُريْةُ التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت . وباطنه : الزنا .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره تقدّم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه وذلك سرّه وعلانيته ، والإثم : كلّ ما عصى الله به من محارمه ، وقد يدخل في ذلك سرّ الزنا وعلانيته ، ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهنّ ، ونكاح حلائل الاَباء والأمهات والبنات ، والطواف بالبيت عريانا ، وكلّ معصية لله ظهرت أو بطنت . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان جميع ذلك إثما ، وكان الله عمّ بقوله : { وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ وَباطِنَهُ }جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن ، لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئا دون شيء إلا بحجة للعذر قاطعة . غير أنه لو جاز أن يوجه ذلك إلى الخصوص بغير برهان ، كان توجيهه إلى أنه عني بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع : ما حرّم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم ، وما بين الله تحريمه في قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ . . . إلى آخر الاَية ، أوْلى ، إذ كان ابتداء الاَيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى وهذه في سياقها ، ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك ، وأدخل فيها الأمر باجتناب كلّ ما جانسه من معاصي الله ، فخرج الأمر عامّا بالنهي عن كلّ ما ظهر أو بطن من الإثم .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثمَ سَيُجزّوْنَ بِمَا كانُوا يَقْتَرِفُونَ .
يقول تعالى ذكره : إن الذين يعملون بما نهاهم الله عنه ويركبون معاصي الله ويأتون ما حرّم الله ، سَيُجْزَوْنَ يقول : سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه .
هذا نهي عام من طرفيه لأن { الإثم } يعم الأحكام والنسب اللاحقة للعصاة عن جميع المعاصي ، والظاهر والباطن يستوفيان جميع المعاصي ، وقد ذهب المتأولون إلى أن الآية من ذلك في مخصص ، فقال السدي : ظاهره الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله ، وباطنه اتخاذ الأخدان ، وقال سعيد بن جبير : الظاهر ما نص الله على تحريمه من النساء بقوله { حرمت عليكم أمهاتكم }{[5074]} ، وقوله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم }{[5075]} ، والباطن الزنا ، وقال ابن زيد : الظاهر التعري والباطن الزنا .
قال القاضي أبو محمد : يريد التعري الذي كانت العرب تفعله في طوافها ، قال قوم : الظاهر الأعمال والباطن المعتقد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن لأنه عاد ثم توعد تعالى كسبة الإثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك وتحملوا ثقله ، و «الاقتراف » الاكتساب .