{ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا } أي : وما تعيب منا على إنكارك علينا وتوعدك لنا ؟ فليس لنا ذنب { إِلا أَنْ آمَنَّا } ب[ آيَاتِ ] ربنا [ لما جاءتنا ]{[324]} فإن كان هذا ذنبا يعاب عليه ، ويستحق صاحبه العقوبة ، فهو ذنبنا .
ثم دعوا اللّه أن يثبتهم ويصبرهم فقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ } أي : أفض { عَلَيْنَا صَبْرًا } أي : عظيما ، كما يدل عليه التنكير ، لأن هذه محنة عظيمة ، تؤدي إلى ذهاب النفس ، فيحتاج فيها من الصبر إلى شيء كثير ، ليثبت الفؤاد ، ويطمئن المؤمن على إيمانه ، ويزول عنه الانزعاج الكثير .
{ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : منقادين لأمرك ، متبعين لرسولك ، والظاهر أنه أوقع بهم ما توعدهم عليه ، وأن اللّه تعالى ثبتهم على الإيمان .
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت . . وأنها معركة العقيدة في الصميم . . لا يداهن ولا يناور . . ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة ، لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة :
( وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ) . .
والذي يعرف أين يتجه في المعركة ، وإلى من يتجه ؛ لا يطلب من خصمه السلامة والعافية ، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام :
( ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين ) . .
ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان ، وأمام الوعي ، وأمام الاطمئنان . . يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب ! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام . فإذا هي مستعصية عليه ، لأنها من أمر الله ، لا يملك أمرها إلا الله . . وماذا يملك الطغيان إذارغبت القلوب في جوار الله ؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله ؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان !
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية . هذا الذي كان بين فرعون وملئه ، والمؤمنين من السحرة . . السابقين . .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بانتصار العقيدة على الحياة . وانتصار العزيمة على الألم . وانتصار " الإنسان " على " الشيطان " !
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية . فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة . والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح . ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية ! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز ، وتمنى بالقرب من السلطان . . هي ذاتها التي تستعلي على فرعون ؛ وتستهين بالتهديد والوعيد ، وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب . وما تغير في حياتها شيء ، ولا تغير من حولها شيء - في عالم المادة - إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى . وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت ، وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد . . وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة ، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة ، ويتسمع الضمير أصداء الهداية ، وتتلقى البصيرة إشراقات النور . . وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي ؛ ولكنها هي تغير الواقع المادي ؛ وترفع " الإنسان " في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال !
ويذهب التهديد . . ويتلاشى الوعيد . . ويمضي الإيمان في طريقه . لا يتلفت ، ولا يتردد ، ولا يحيد ! ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد . . إن روعة الموقف تبلغ ذروتها ؛ وتنتهي إلى غايتها . وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض ؛ مع الهدف النفسي للقصة ، على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني ، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن .
وقوله : وَما تَنْقِمُ مِنّا إلاّ أنْ آمَنّا بآياتِ رَبّنا يقول : ما تنكر منا يا فرعون وما تجد علينا ، إلا من أجل أن آمنا : أي صدّقنا بآيات ربنا ، يقول : بحجج ربنا وأعلامه وأدلته التي لا يقدر على مثلها أنت ، ولا أحد سوى الله ، الذي له ملك السموات والأرض . ثم فزعوا إلى الله ، بمسئلته الصبر على عذاب فرعون ، وقبض أرواحهم على الإسلام ، فقالوا : رَبّنا أفْرغْ عَلَيْنا صَبْرا يعنون بقولهم : أفرغ : أنزل علينا حبسا يحبسنا عن الكفر بك عند تعذيب فرعون إيانا . وَتَوَفّنا مُسْلِمِينَ يقول : واقبضنا إليك على الإسلام ، دين خليلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، لا على الشرك بك .
فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : لأُقَطّعَنّ أيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ فقتلهم وصَلَبهم ، كما قال عبد الله بن عباس حين قالوا : رَبّنا أفْرغْ عَلَيْنا صَبْرا وَتَوَفّنا مُسْلِمِينَ قال : كانوا في أوّل النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن عبيد بن عمير ، قال : كانت السحرة أوّل النهار سحرة ، وآخر النهار شهداء .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأُلْقِيَ السّحَرَةُ ساجِدِينَ قال : ذكر لنا أنهم كانوا في أوّل النهار سحرة ، وآخره شهداء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : رَبّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرا وَتَوَفّنا مُسْلِمِينَ قال : كانوا أوّل النهار سحرة ، وآخره شهداء .
وقرأ جمهور الناس «تنقِم » بكسر القاف ، وقرأ أبو حيوة وأبو البرهشم وابن أبي عبلة ، والحسن بن أبي الحسن «تنقَم » بفتحها وهم لغتان ، قال أبو حاتم : الوحه في القراءة كسر القاف ، وكل العلماء أنشد بيت ابن الرقيات :
ما نقَموا من بني أمية . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . .
بفتح القاف ومعناه وما تعد علينا وتؤاخذنا به ؟ وقولهم { أفرغ علينا صبراً } معناه عمنا كما يعم الماء من أفرغ عليه ، وهي هنا مستعارة ، وقال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، وحكى النقاش عن مقاتل أنه قال : مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.