{ وَجَحَدُوا بِهَا } أي : كفروا بآيات الله جاحدين لها ، { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } أي : ليس جحدهم مستندا إلى الشك والريب ، وإنما جحدهم مع علمهم ويقينهم{[589]} بصحتها { ظُلْمًا } منهم لحق ربهم ولأنفسهم ، { وَعُلُوًّا } على الحق وعلى العباد وعلى الانقياد للرسل ، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أسوأ عاقبة دمرهم الله وغرقهم في البحر وأخزاهم وأورث مساكنهم المستضعفين من عباده .
وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه : ( واستيقنتها أنفسهم ) . قالوا جحودا ومكابرة ، لأنهم لا يريدون الإيمان ، ولا يطلبون البرهان . استعلاء على الحق وظلما له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم .
وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن ، ويستيقنون أنه الحق ، ولكنهم يجحدونه ، ويجحدون دعوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إياهم إلى الله الواحد . ذلك أنهم كانوا يريدون الإبقاء على ديانتهم وعقائدهم ، لما وراءها من أوضاع تسندهم ، ومغانم تتوافد عليهم . وهي تقوم على تلك العقائد الباطلة ، التي يحسون خطر الدعوة الإسلاميه عليها ، ويحسونها تتزلزل تحت أقدامهم ، وترتج في ضمائرهم . ومطارق الحق المبين تدمغ الباطل الواهي المريب !
وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون لأنهم لا يعرفونه . بل لأنهم يعرفونه ! يجحدونه وقد استيقنته نفوسهم ، لأنهم يحسون الخطر فيه على وجودهم ، أو الخطر على أوضاعهم ، أو الخطر على مصالحهم ومغانمهم . فيقفون في وجهه مكابرين ، وهو اضح مبين .
( فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) . .
وعاقبة فرعون وقومه معروفة ، كشف عنها القرآن في مواضع أخرى . إنما يشير إليها هنا هذه الإشارة ، لعلها توقظ الغافلين من الجاحدين بالحق المكابرين فيه ، إلى عاقبة فرعون وقومه قبل أن يأخذهم ما أخذ المفسدين .
وقوله : وَجَحَدُوا بِها يقول : وكذّبوا بالاَيات التسع أن تكون من عند الله ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج وَجَحَدُوا بِها قال : الجحود : التكذيب بها .
وقوله : وَاسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ يقول : وأيقنتها قلوبهم ، وعلموا يقينا أنها من عند الله ، فعاندوا بعد تبينهم الحقّ ، ومعرفتهم به ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس وَاسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ قال : يقينهم في قلوبهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله الله : وَاسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْما وَعُلُوّا قال : استيقنوا أن الاَيات من الله حقّ ، فلم جحدوا بها ؟ قال : ظلما وعلوّا .
وقوله : ظُلْما وَعُلُوّا يعني بالظلم : الاعتداء ، والعلوّ : الكبر ، كأنه قيل : اعتداء وتكبرا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله ظُلْما وَعُلُوّا قال : تعظما واستكبارا ، ومعنى ذلك : وجحدوا بالاَيات التسع ظلما وعلوّا ، واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله ، فعاندوا الحقّ بعد وضوحه لهم ، فهو من المؤخر الذي معناه التقديم .
وقوله : فانْظُرْ كَيْف كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فانظر يا محمد بعين قلبك كيف كان عاقبة تكذيب هؤلاء الذين جحدوا آياتنا حين جاءتهم مبصرة ، وماذا حلّ بهم من إفسادهم في الأرض ومعصيتهم فيها ربهم ، وأعقبهم ما فعلوا ، فإن ذلك أخرجهم من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، إلى هلاك في العاجل بالغرق ، وفي الاَجل إلى عذاب دائم ، لا يفتر عنهم ، وهم فيه مبلسون . يقول : وكذلك يا محمد سنتي في الذين كذّبوا بما جئتهم به من الاَيات على حقيقة ما تدعوهم إليه من الحقّ من قومك .
وظاهر قوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } حصول الكفر عناداً وهي مسألة قولين هل يجوز أن يقع أم لا ؟ فجوزت ذلك فرقة وقالت يجوز أن يكون الرجل عارفاً إلا أنه يجحد عناداً ويموت على معرفته وجحوده فهو بذلك في حكم الكافر المخلد ، قالوا وهذا حكم إبليس وحكم حيي بن أخطب وأخيه حسبما روي عنهما .
قال الفقيه الإمام القاضي : وإن عورض هذا المثال فرض إنسان ويجوز ذلك فيه وقالت فرقة لا يصح لوجهين :
أحدهما أن هذا لا يجوز وقوعه من عاقل ، والوجه الآخر أن المعرفة تقتضي أن تحل في القلب ، وذلك إيمان وحكم الكفر لا يلحقه إلا بأن يحل بالقلب كفر ، ولا يصح اجتماع الضدين في محل واحد ، قالوا : ويشبه في هذا العارف الجاحد أن يسلب عند الموافاة تلك المعرفة ويحل بدلها الكفر .
قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر عندي في هذه الآية وكل ما جرى مجراها أن هؤلاء الكفرة كانوا إذا نظروا في آيات موسى عليه السلام أعطتهم عقولهم أنها ليست تحت قدرة البشر وحصل لهم اليقين أنها من عند الله تعالى ، فيغلبهم أثناء ذلك الحسد ويتمسكون بالظنون في أنه سحر وغير ذلك مما يختلج في الظن بحسب كل آية ، ويلجون في عماهم فيضطرب ذلك اليقين ويدفعونه في كل حيلة من التحيل لربوبية فرعون وغير ذلك ، حتى يستلب ذلك اليقين أو يدوم كذلك مضطرباً ، وحكمه المستلب في وجوب عذابهم ، و { ظلماً } معناه على غير استحقاق للجحد ، و «العلو » في الأرض أعظم آفة على طالبه . قال الله تعالى : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً }{[8996]} [ القصص : 83 ] . ثم عجبه تعالى من عقاب { المفسدين } قوم فرعون وسوء منقلبهم حين كذبوا موسى وفي هذا تمثيل لكفار قريش إذ كانوا مفسدين مستعلين ، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش «ظلماً وعلياً » ، وحكى أبو عمرو الداني عنهم وعن أبان بن تغلب أنهم كسروا العين من «عِلياً » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.