تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

{ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ْ } أي : شكا ، وريبا ماكثا في قلوبهم ، { إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ْ } بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم ، ويخافوه غاية الخوف ، فبذلك يعفو اللّه عنهم ، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم ، ونفاقا إلى نفاقهم .

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ْ } بجميع الأشياء ، ظاهرها ، وباطنها ، خفيها وجليها ، وبما أسره العباد ، وأعلنوه .

{ حَكِيمٌ ْ } لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد{[385]} .

وفي هذه الآيات فوائد عدة :

منها : أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه ، أنه محرم ، وأنه يجب هدم مسجد الضرار ، الذي اطلع على مقصود أصحابه .

ومنها : أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية ، فينقلب منهيا عنه ، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى . ومنها : أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين ، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها .

كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم ، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها ، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه ، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله .

ومنها : النهي عن الصلاة في أماكن المعصية ، والبعد عنها ، وعن قربها .

ومنها : أن المعصية تؤثر في البقاع ، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار ، ونهي عن القيام فيه ، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء " حتى قال اللّه فيه :

{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ْ } .

ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره ، حتى كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت يصلي فيه ، وحث على الصلاة فيه .

ومنها : أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية ، أربع قواعد مهمة ، وهي :

كل عمل فيه مضارة لمسلم ، أو فيه معصية للّه ، فإن المعاصي من فروع الكفر ، أو فيه تفريق بين المؤمنين ، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله ، فإنه محرم ممنوع منه ، وعكسه بعكسه .

ومنها : أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات .

ومنها : أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى ، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى .

ومنها : أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة ، هو العمل المؤسس على التقوى ، الموصل لعامله إلى جنات النعيم .

والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال ، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار ، فانهار به في نار جهنم ، واللّه لا يهدي القوم الظالمين .


[385]:- كذا في ب وفي أ: وأمر به، الحمد.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

ومشهد آخر يرسمه التعبير القرآني الفريد لآثار مسجد الضرار في نفوس بُناته الأشرار ؛ وبناة كل مساجد الضرار :

( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ، إلا أن تقطع قلوبهم ، واللّه عليم حكيم )

لقد انهار الجرف المنهار . انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه . انهار به في نار جهنم وبئس القرار ! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته . بقي فيها( ريبة )وشكا وقلقا وحيرة . وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر . إلا أن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور !

وإن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار . . تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية . . وهما تتقابلان في اللوحة الفنية العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد . وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان . فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة ، حائر الوجدان ، لا يطمئن ولا يستقر ، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم ، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار .

وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني ، في مثل هذا التناسق ؛ بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء . .

وتبقي وراء ذلك كله حكمة المنهج القرآني في كشف مسجد الضرار وأهله ؛ وفي تصنيف المجتمع إلى تلك المستويات الإيمانية الواضحة ؛ وفي كشف الطريق للحركة الإسلامية ، ورسم طبيعة المجال الذي تتحرك فيه من كل جوانبه . .

لقد كان القرآن الكريم يعمل في قيادة المجتمع المسلم ، وفي توجيهه ، وفي توعيته ، وفي إعداده لمهمته الضخمة . . ولن يفهم هذا القرآن إلا وهو يدرس في مجاله الحركي الهائل ؛ ولن يفهمه إلا أناس يتحركون به مثل هذه الحركة الضخمة في مثل هذا المجال .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّ أَن تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا رِيَبةً يقول : لا يزال مسجدهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم ، يعني شكّا ونفاقا في قلوبهم ، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين . إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يعني إلا أن تتصدّع قلوبهم فيموتوا ، والله عليم بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار من شكهم في دينهم وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه وما إليه صائر أمرهم في الاَخرة وفي الحياة ما عاشوا ، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم ، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ يعني شكّا إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يعني الموت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : شكّا في قلوبهم ، إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ إلى أن يموتوا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يقول : حتى يموتوا .

حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : إلا أن يموتوا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة والحسن : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمْ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قالا شكّا في قلوبهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، قال : حدثنا أبو سنان ، عن حبيب : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : غيظا في قلوبهم .

قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .

قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي سنان ، عن حبيب : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ : إلا أن يموتوا .

قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن السديّ : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : كفر . قلت : أكفر مجمّع ابن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : حزازة في قلوبهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لا يزال ريبةً في قلوبهم راضين بما صنعوا ، كما حبب العجل في قلوب أصحاب موسى . وقرأ : وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال : حبه . إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا يعني المنافقين .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن السديّ ، عن إبراهيم : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : شكّا . قال : قلت يا أبا عمران تقول هذا وقد قرأت القرآن ؟ قال : إنما هي حزازة .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ فقرأ ذلك بعض قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة : «إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ » بضمّ التاء من «تقطع » ، على أنه لم يسمّ فاعله ، وبمعنى : إلا أن يقطع الله قلوبهم . وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ بفتح التاء من تقطّع على أن الفعل للقلوب . بمعنى : إلا أن تنقطع قلوبهم ، ثم حذفت إحدى التاءين . وذكر أن الحسن كان يقرأ : «إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ » بمعنى : حتى تتقطع قلوبهم . وذكر أنها في قراءة عبد الله : «وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبهُمْ » وعلى الاعتبار بذلك قرأ من ذلك : «إلاّ أنْ تُقَطّعَ » بضم التاء .

والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى ، لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت إلا بتقطيع الله إياها ، ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة . وهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في قراءته . وأما قراءة من قرأ ذلك : «إلى أن تُقْطّعَ » ، فقراءة لمصاحف المسلمين مخالفة ، ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزة .