{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ }
أي : تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها ، ولا القصور عنها ، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين .
ثم قوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ }{[195]} فالوصية للوارث بزيادة على حقه يدخل في هذا التعدي ، مع قوله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عموما ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد ، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظمُه الشرك بالله ، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } فمن أدى الأوامر واجتنب النواهي فلا بد له من دخول الجنة والنجاة من النار . { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه ، والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي لا يصفه الواصفون .
توكيد بعد توكيد للقاعدة الأساسية في هذه العقيدة . قاعدة التلقي من الله وحده ، وإلا فهو الكفر والعصيان والخروج من هذا الدين .
وهذا ما تقرره الآيتان التاليتان في السورة تعقيبا نهائيا على تلك الوصايا والفرائض . حيث يسميها الله بالحدود :
( تلك حدود الله . ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . وذلك الفوز العظيم . ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ، وله عذاب مهين ) . .
تلك الفرائض ، وتلك التشريعات ، التي شرعها الله لتقسيم التركات ، وفق علمه وحكمته ، ولتنظيم العلاقات العائلية في الأسرة ، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع . . ( تلك حدود الله ) . . حدود الله التي أقامها لتكون هي الفيصل في تلك العلاقات ، ولتكون هي الحكم في التوزيع والتقسيم .
ويترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم . كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين . .
لماذا ؟ لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث ؛ وفي جزئية من هذا التشريع ، وحد من حدوده ؟
إن الآثار تبدو أضخم من الفعل . . لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق . .
إن هذا الأمر تتولى بيانه نصوص كثيرة في السورة ستجيء . وقد أشرنا إليها في وهي النصوص التي تبين معنى الدين ، وشرط الإيمان ، وحد الإسلام . ولكن لا بأس أن نستعجل بيان هذا الأمر - على وجه الإجمال - بمناسبة هاتين الآيتين الخطيرتين ، في هذا التعقيب على آيتي المواريث :
إن الأمر في هذا الدين - الإسلام - بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ . . إن الأمر في دين الله كله هو : لمن الألوهية في هذه الأرض ؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس ؟
وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين ، يترتب كل شيء في أمر هذا الدين . وكل شيء في أمر الناس أجمعين !
لمن الألوهية ؟ ولمن الربوبية ؟
لله وحده - بلا شريك من خلقه - فهو الإيمان إذن ، وهو الإسلام ، وهو الدين .
لشركاء من خلقه معه ، أو لشركاء من خلقه دونه ، فهو الشرك إذن أو الكفر المبين .
وأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده ، فهي الدينونة من العباد لله وحده . وهي العبودية من الناس لله وحده . وهي الطاعة من البشر لله وحده ، وهي الأتباع لمنهج الله وحده بلا شريك . . فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم . والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم . والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم . . وليس لغيره - أفرادا أو جماعات - شيء من هذا الحق إلابالارتكان إلى شريعة الله . لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية . ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة .
وأما أن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله - شركة مع الله أو أصالة من دونه ! - فهي الدينونة من العباد لغير الله . وهي العبودية من الناس لغير الله . وهي الطاعة من البشر لغير الله . وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين ، التي يضعها ناس من البشر ، لا يستندون في وضعها إلى كتاب الله وسلطانه ؛ إنما يستندون إلى أسناد أخرى ، يستمدون منها السلطان . . ومن ثم فلا دين ، ولا إيمان ، ولا إسلام . إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان . .
هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته . . ومن ثم يستوي أن يكون الخروج على حدود الله في أمر واحد ، أو في الشريعة كلها . . لأن الأمر الواحد هو الدين - على ذلك المعنى - والشريعة كلها هي الدين . . فالعبرة بالقاعدة التي تستند إليها أوضاع الناس . . أهي إخلاص الألوهية والربوبية لله - بكل خصائصها - أو إشراك أحد من خلقه معه . أو استقلال خلقه دونه بالألوهية والربوبية بعضهم على بعض . مهما ادعوا لأنفسهم من الدخول في الدين ! ومهما رددت ألسنتهم - دون واقعهم - أنهم مسلمون !
هذه هي الحقيقة الكبيرة ، التي يشير إليها هذا التعقيب ، الذي يربط بين توزيع أنصبة من التركة على الورثة ، وبين طاعة الله ورسوله ، أو معصية الله ورسوله . وبين جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ؛ ونار خالدة وعذاب مهين !
وهذه هي الحقيقة الكبيرة ، التي تتكىء عليها نصوص كثيرة ، في هذه السورة ، وتعرضها عرضا صريحا حاسما ، لا يقبل المماحكة ، ولا يقبل التأويل .
وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام ، وأين حياتهم من هذا الدين !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.