تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

{ أُولَئِكَ } الذين آمنوا بالكتابين { يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ } أجرا على الإيمان الأول ، وأجرا على الإيمان الثاني ، { بِمَا صَبَرُوا } على الإيمان ، وثبتوا على العمل ، فلم تزعزعهم{[607]}  عن ذلك شبهة ، ولا ثناهم عن الإيمان رياسة ولا شهوة .

و من خصالهم الفاضلة ، التي من آثار إيمانهم الصحيح ، أنهم { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : دأبهم وطريقتهم الإحسان لكل أحد ، حتى للمسيء إليهم بالقول والفعل ، يقابلونه بالقول الحميد والفعل الجميل ، لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم ، وأنه لا يوفق له إلا ذو حظ عظيم .


[607]:- كذا في ب، وفي أ: يزعزعهم من.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُوْلََئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .

يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت صفتهم ، يُؤْتَوْن ثواب عملهم مرّتين بما صبروا .

واختلف أهل التأويل في معنى الصبر الذي وعد الله ما وعد عليه ، فقال بعضهم : وعدهم ما وعد جلّ ثناؤه ، بصبرهم على الكتاب الأوّل ، واتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وصبرهم على ذلك . وذلك قول قَتادة ، وقد ذكرناه قبل .

وقال آخرون : بل وعدهم بصبرهم بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ، وباتباعهم إياه حين بعث . وذلك قول الضحاك بن مزاحم ، وقد ذكرناه أيضا قبل ، وممن وافق قَتادة على قوله عبد الرحمن بن زيد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّا كُنّا من قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ على دين عيسى ، فلما جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلموا ، فكان لهم أجرهم مرّتين : بما صبروا أوّل مرّة ، ودخلوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإسلام . وقال قوم في ذلك بما :

حدثنا به ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : إن قوما كانوا مشركين أسلموا ، فكان قومهم يؤذونهم ، فنزلت أوْلئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ بِمَا صَبرُوا وقوله وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيّئَةَ يقول : ويدفعون بحسنات أفعالهم التي يفعلونها سيئاتهم ومِمّا رَزَقْناهُمْ من الأموال يُنْفِقُونَ في طاعة الله ، إما في جهاد في سبيل الله ، وإما في صدقة على محتاج ، أو في صلة رَحِم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَإذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّنا ، إنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ قال الله : أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْن بِمَا صَبرُوا وأحسن الله عليهم الثناء كما تسمعون ، فقال : وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيّئَةَ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

و { أجرهم مرتين } معناه على ملتين وبحظوة شريعتين ، وهذا المعنى هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة يؤتيهم أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، والعبد الناصح في عبادة ربه وخدمة سيده ، ورجل كانت له أمة فأدبها وعلمها ثم أعتقها وتزوجها »{[9156]} وقوله تعالى : { بما صبروا } عام في صبرهم على ملتهم ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك من أنوع الصبر ، وقوله تعالى : { ويدرؤون } معناه يدفعون هذا وصف لمكارم الأخلاق ، أي : يتعاونون ، ومن قال لهم سوءاً لا َيُنوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه ، وهذه آية مهادنة وهي في صدر الإسلام وهي مما نسخته آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاها أمة محمد إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } مدح لهم بالنفقة في الطاعات وعلى رسم الشرع ، وفي ذلك حض على الصدقات ونحوها ، .


[9156]:أخرجه البخاري ومسلم، وأحمد والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن مردويه، والبيهقي، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وقال الشعبي للخراساني: خذ هذا الحديث بغير شيء، فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة. قال العلماء: لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين، فالكتابي كان مخاطبا من جهة نبيه، ثم إنه خوطب من جهة نبينا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين، والعبد مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده، ورب الأمة لما قام بما خوطب به من تربية أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية، ثم إنه لما أعتقها وتزوجها أحياها إحياء الحرية التي ألحقها فيه بمنصبه، فقد قام بما أمر فيها، فأجر كل واحد منهما أجرين، ولذلك قيل: إن العبد الذي يؤدي حق ربه وحق سيده أفضل من الحر، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك المصلح أجران).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

التعبير عنهم باسم الإشارة هنا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .

عَدَّ الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال :

إحداها : أخروية ، وهي { يؤتون أجرهم مرتين } أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم ، أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن ، فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيهاً للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد .

وفائدة هذا المجاز إظهار العناية حتى كأن المثيب يعطي ثم يكرر عطاءه ففي { يؤتون أجرهم مرتين } تمثيلة . وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيئه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران » رواه الشعبي وقال لعطاء الخراساني : خذه بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة .

والثانية : الصبر ، والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات ، وأعونها على الزيادة والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم أو صبرهم على أذى قريش ، وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي . ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله { ويدرؤون بالحسنة السيئة } وقوله { وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } .

والخصلة الثالثة : درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ فصلت : 34 ] ، فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس ، وإسداء الخير إلى نفس أخرى ، فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي { سلام عليكم } .

وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة ، وهو الخصلة الرابعة ولا يخفى مكانها من البر .

والخصلة الخامسة : الإعراض عن اللغو ، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه ، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة ، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولُبّه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك .

والخصلة السادسة : الكلام الفصل وهو قولهم { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } وهذا من أحسن ما يجاب به السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم .

ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تُنظم في سلك الإعجاز فألهمهم تلك الكلمات ثم شرّفها بأن حيكت في نسج القرآن ، كما ألهم عمر قوله

{ عسى ربه إن طلقكن } [ التحريم : 5 ] الآية .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَيۡنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (54)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} أجرا بتمسكهم بالإسلام حتى أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به، وأجرهم بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم شتمهم كفار قومهم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فصفحوا عنهم وردوا معروفا، فأنزل الله عز وجل: {ويدرءون بالحسنة السيئة} ما سمعوا من قومهم من الأذى {ومما رزقناهم} من الأموال {ينفقون} في طاعة الله عز وجل.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم، "يُؤْتَوْن "ثواب عملهم "مرّتين بما صبروا".

واختلف أهل التأويل في معنى الصبر الذي وعد الله ما وعد عليه؛

فقال بعضهم: وعدهم ما وعد جلّ ثناؤه، بصبرهم على الكتاب الأوّل، واتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وصبرهم على ذلك...

وقال آخرون: بل وعدهم بصبرهم بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وباتباعهم إياه حين بعث...

وقوله "وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيّئَةَ" يقول: ويدفعون بحسنات أفعالهم التي يفعلونها سيئاتهم "ومِمّا رَزَقْناهُمْ" من الأموال "يُنْفِقُونَ" في طاعة الله، إما في جهاد في سبيل الله، وإما في صدقة على محتاج، أو في صلة رَحِم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... وقوله تعالى: {ويدرءون بالحسنة السيئة} هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يحسنون إليهم بعد إساءتهم إليهم وأذاهم إياهم على ما كانوا يفعلون، ويصنعون إليهم قبل ذلك. والثاني: {ويدرءون بالحسنة السيئة} أي يعفون عن أذاهم، ويكافئونهم، فيكون كقوله: {خذ العفو وأمر بالعرف} الآية [الأعراف: 199]. والأول كقوله: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34].

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ثم أخبر تعالى أن هؤلاء الذين وصفهم يعطيهم الله أجرهم أي ثوابهم على ما صبروا في جنب الله "مرتين "إحداهما لفعلهم الطاعة، والثانية للصبر عليها...فهؤلاء صبروا على الامتناع من المعاصي، وعلى فعل الطاعات. وقيل: صبروا على الأذى في جنب الله. ثم وصف الصابرين الذين ذكرهم فقال "ويدرؤون بالحسنة السيئة" يعني يدفعون بالتوبة المعاصي، لأن الله تعالى يسقط العقاب عندها. وقيل: معناه يدفعون بالكلام الجميل اللغو من كلام الكفار.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن. أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله. أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. ونحوه {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28]، {بالحسنة السيئة} بالطاعة المعصية المتقدمة، أو بالحلم الأذى.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{بما صبروا} عام في صبرهم على ملتهم ثم على هذه، وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك من أنوع الصبر، وقوله تعالى: {ويدرؤون} معناه يدفعون، هذا وصف لمكارم الأخلاق.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا "ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران)... وخرجه البخاري أيضا.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوئ، قال عاطفاً على {يؤمنون} مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين: {ويدرءون بالحسنة} من الأقوال والأفعال {السيئة} أي من ذلك كله فيمحونها بها. ولما كان بعض هذا الدرء لا يتم إلا بالجود قال: {ومما رزقناهم} أي بعظمتنا، لا بحول منهم ولا قوة، قليلاً كان أو كثيراً {ينفقون} معتمدين في الخلف على الذي رزقه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا.. الصبر على الإسلام الخالص. إسلام القلب والوجه. ومغالبة الهوى والشهوة. والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة. أولئك يؤتون أجرهم مرتين، جزاء على ذلك الصبر، وهو عسير على النفوس، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف. وهؤلاء صبروا عليها جميعا، وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية، وكما يقع دائما للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان: ويدرؤون بالحسنة السيئة.. وهذا هو الصبر كذلك. وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية. إنه الاستعلاء على كبرياء النفس، ورغبتها في دفع السخرية، ورد الأذى، والشفاء من الغيظ، والبرد بالانتقام! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله. درجة السماحة الراضية. التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان؛ وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين. "ومما رزقناهم ينفقون".. وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال، عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان. فهما من منبع واحد: منبع الاستعلاء على شهوة النفس، والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض. الأولى في النفس، والثانية في المال. وكثيرا ما يردان متلازمين في القرآن.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

التعبير عنهم باسم الإشارة هنا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة.. عَدَّ الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال:

إحداها: أخروية، وهي {يؤتون أجرهم مرتين} أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم، أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن، فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيهاً للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد. وفائدة هذا المجاز إظهار العناية حتى كأن المثيب يعطي ثم يكرر عطاءه...

والثانية: الصبر، والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات، وأعونها على الزيادة...

والخصلة الثالثة: درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34]، فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس، وإسداء الخير إلى نفس أخرى...

وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة، وهو الخصلة الرابعة ولا يخفى مكانها من البر.

والخصلة الخامسة: الإعراض عن اللغو، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولُبّه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك.

والخصلة السادسة: الكلام الفصل وهو قولهم {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم} وهذا من أحسن ما يجاب به السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم...

.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممن لم يؤمن في الإيمان الأول، ثم تعرضوا للإيذاء في الإيمان الثاني، فصبروا على الإيذاءين، هذه هي حيثية {يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَيَدْرَؤونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}... لأنهم ينطلقون من منطق الواقع الذي يوحي بأن الدخول في المشاحنات الكلامية، وفي ردود الفعل العملية، على أساس العصبية والانفعال، لا يؤدي غالباً إلى النتائج الإيجابية في إيمان الكافرين وفي إقناع المتمردين وفي انفتاح المتعصبين، بل يزيد الكافر كفراً، والمتمرد تمرداً، والمتعصب تعصباً، ويثير المشاعر في أجواء العداوة والبغضاء، مما يمكن أن يدفعه الإنسان بكلمةٍ حلوةٍ، وابتسامةٍ مشرقةٍ، وبأسلوبٍ متوازنٍ محبَّب.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

والخصلة الأُخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم "وممّا رزقناهم ينفقون". وليس الإنفاق من الأموال فحسب، بل من كل ما رزقهم الله من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الاجتماعية، وجميع هذه الأُمور من مواهب الله ورزقه فهم ينفقون منها في سبيل الله!.