تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (39)

{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

كرر الإهباط ، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } أي : أيَّ وقت وزمان جاءكم مني -يا معشر الثقلين- هدى ، أي : رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني ، ويدنيكم مني ، ويدنيكم من رضائي ، { فمن تبع هداي } منكم ، بأن آمن برسلي وكتبي ، واهتدى بهم ، وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب ، والامتثال للأمر والاجتناب للنهي ، { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

وفي الآية الأخرى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }

فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء :

نفي الخوف والحزن ، والفرق بينهما أن المكروه إن كان قد مضى ، أحدث الحزن ، وإن كان منتظرا ، أحدث الخوف ، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ، حصل ضدهما ، وهو الأمن التام ، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما ، وهو الهدى والسعادة ، فمن اتبع هداه ، حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى ، وانتفى عنه كل مكروه ، من الخوف ، والحزن ، والضلال ، والشقاء ، فحصل له المرغوب ، واندفع عنه المرهوب ، وهذا عكس من لم يتبع هداه ، فكفر به ، وكذب بآياته .

ف { أولئك أصحاب النار } أي : الملازمون لها ، ملازمة الصاحب لصاحبه ، والغريم لغريمه ، { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يخرجون منها ، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون .

وفي هذه الآيات وما أشبهها ، انقسام الخلق من الجن والإنس ، إلى أهل السعادة ، وأهل الشقاوة ، وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك ، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب ، كما أنهم مثلهم ، في الأمر والنهي .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (39)

وقوله : { وَالّذِينَ كَفَرواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

يعني : والذين جحدوا آياتي وكذّبوا رسلي ، وآيات الله : حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته ، وما جاءت به الرسل من الأعلام والشواهد على ذلك ، وعلى صدقها فيما أنبأت عن ربها . وقد بينا أن معنى الكفر : التغطية على الشيء . أولَئِكَ أصْحابُ النّارِ يعني أهلها الذين هم أهلها دون غيرهم المخلدون فيها أبدا إلى غير أمد ولا نهاية ، كما :

حدثنا به عقبة بن سنان البصري ، قال : حدثنا غسان بن مضر ، قال : حدثنا سعيد بن يزيد ، وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، وأبو بكر بن عون ، قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمّا أهْلُ النّارِ الّذِينَ هَمْ أهْلُها فإنَهُمْ لاَ يَمُوتُونَ فِيها وَلاَ يَحْيَوْنَ وَلَكِنّ أقْوَاما أصَابَتْهُمُ النارُ بِخَطاياهُمْ أوْ بِذُنُوبِهِمْ فأماتَتْهُمْ إماتَةً حتى إذَا صَارُوا فَحْما أُذِنَ فِي الشفاعَة » .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (39)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 39 )

وقوله تعالى : { والذين كفروا } الآية ، عطف جملة مرفوعة على جملة مرفوعة ، وقال { وكذبوا } وكان في الكفر كفاية لأن لفظة كفرا يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي ، ولا يجب بهذا خلود فبين أن الكفر هنا هو الشرك ، بقوله { وكذبوا بآياتنا } والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة ، ويحتمل أن يريد العلامة المنصوبة ، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية ، و { أولئك } رفع بالابتداء و { أصحاب } خبره ، والصحبة الاقتران( {[524]} ) بالشيء في حالة ما ، في زمن ما ، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة ، وهكذا هي صحبة أهل النار لها ، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة ، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن ، وأكثرها الخلطة والملازمة ، و { هم فيها خالدون } ، ابتداء وخبر في موضع الحال .


[524]:- والصحبة أدناها الاقتران بالشيء في زمن ما، وأعلاها المخالطة والملازمة، فالصحابة الذين خالطوا الإسلام ولازموه ليسوا كالصحابة الذي اقترنوا بالإسلام في زمن الأزمنة، وفي حال من الأحوال، والكفار الذين خالطوا النار ولازموها ليسوا كالعصاة الذين اقترنوا بها في زمن معين محدود. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في "الشفاعة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (39)

وقوله : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } يحتمل أنه من جملة ما قيل لآدم فإكمال ذكره هنا استيعاب لأقسام ذرية آدم وفيه تعريض بالمشركين من ذرية آدم وهو يعم من كذب بالمعجزات كلها ومن جملتها القرآن ، عطف على { مَن } الشرطية في قوله : { فمن تبع هداي } إلخ فهو من عطف جملة اسمية على جملة اسمية ، وأتى بالجملة المعطوفة غير شرطية مع ما في الشرطية من قوة الربط والتنصيص على ترتب الجزاء على الشرط وعدم الانفكاك عنه لأن معنى الترتب والتسبب وعدم الانفكاك قد حصل بطرق أخرى فحصل معنى الشرط من مفهوم قوله : { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم } فإنه بشارة يؤذن مفهومها بنذارة من لم يتبعه فهو خائف حزين فيترقب السامع ما يبين هذا الخوف والحزن فيحصل ذلك بقوله : { والذين كفروا وكذبوا } الآية . وأما معنى التسبب فقد حصل من تعليق الخبر على الموصول وصلته المومىء إلى وجه بناء الخبر وعلته على أحد التفسيرين في الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وأما عدم الانفكاك فقد اقتضاه الإخبار عنهم بأصحاب النار المقتضي للملازمة ثم التصريح بقوله : { هم فيها خالدون } .

ويحتمل أنه تذييل ذيلت به قصة آدم لمناسبة ذكر المهتدين وليس من المقول له ، والمقصود من هذا التذييل تهديد المشركين والعود إلى عرض قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] وقوله : { كيف تكفرون بالله } [ البقرة : 28 ] فتكون الواو في قوله : { والذين كفروا } اعتراضية والمراد بالذين كفروا الذين أنكروا الخالق وأنكروا أنبياءه وجحدوا عهده كما هو اصطلاح القرآن والمعنى والذين كفروا بي وبهداي كما دلت عليه المقابلة .

والآيات جمع آية وهي الشيء الدال على أمر من شأنه أن يخفى ، ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات لأنهم وضعوها للإرشاد إلى الطرق الخفية في الرمال ، وتسمى الحجة آية لأنها تظهر الحق الخفي ، كما قال الحارث بن حلزة :

من لنا عنده من الخير آيا *** تٌ ثلاثٌ في كلهن القضاء

يعني ثلاث حجج على نصحهم وحسن بلائهم في الحرب وعلى اتصالهم بالملك عمرو بن هند . وسمى الله الدلائل على وجوده وعلى وحدانيته وعلى إبطال عقيدة الشرك آيات ، فقال : { وماتأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } [ الأنعام : 4 ] وقال : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } [ الأنعام : 97 ] إلى قوله : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] وقال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } [ الأنعام : 109 ] وسمي القرآن آية فقال : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله إلى قوله { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } في سورة العنكبوت ( 50 ، 51 ) . وسمَّى أجزاءه آيات فقال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } [ الحج : 72 ] وقال : { المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق } [ الرعد : 1 ] لأن كل سورة من القرآن يعجز البشر عن الإتيان بمثلها كما قال تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] ، فكان دالاً على صدق الرسول فيما جاء به وكانت جمله آيات لأن بها بعضَ المقدار المعجز ، ولم تسم أجزاء الكتب السماوية الأخرى آيات ، وأما ما ورد في حديث الرجم أن ابن صوريا حين نشر التوراة وضع يده على آية الرجم فذلك على تشبيه الجزء من التوراة بالجزء من القرآن وهو من تعبير راوي الحديث .

وأصل الآية عند سيبويه فَعَلَة بالتحريك أَيَيَهْ أو أَوَيَهْ على الخلاف في أنها واوية أو يائية مشتقة من أي الاستفهامية أو من أوى{[114]} فلما تحرك حرفَا العلة فيها قلب أحدهما وقُلب الأول تخفيفاً على غير قياس لأن قياس اجتماع حرفي علة صالحين للإعلال أن يعل ثانيهما إلا ما قل من نحو آيَة وقَاية وطَاية وثَاية ورَاية{[115]} .

فالمراد بآياتنا هنا آيات القرآن أي وكذبوا بالقرآن أي بأنه وحي من عند الله . والباء في قوله : { وكذبوا بآياتنا } باء يكثر دخولها على متعلق مادة التكذيب مع أن التكذيب متعد بنفسه ولم أقف في كلام أئمة اللغة على خصائص لحاقها بهذه المادة والصيغة فيحتمل أنها لتأكيد اللصوق للمبالغة في التكذيب فتكون كالباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وقول النابغة :

* لك الخير أَنْ وارتْ بك الأرضُ واحدا *

ويحتمل أن أصلها للسببية وأن الأصل أن يُقال كذَّب فلاناً بخبره ثم كثر ذلك فصار كذب به وكذَب بمعنى واحد والأكثر أن يقال كذَّب فلاناً ، وكذب بالخبر الفلاني ، فقوله : { بآياتنا } يتنازعه فعلا كَفروا وكَذبوا . وقوله : { هم فيها خالدون } بيان لمضمون قوله : { أصحاب النار } فإن الصاحب هنا بمعنى الملازم ولذلك فصلت جملة { فيها خالدون } لتنزلها من الأولى منزلة البيان فبينهما كمال الاتصال .


[114]:- وزن آية يقتضي أن يكون ألفها منقلبة عن اصل أو أن يكون هنالك أصل محذوق وألفها زائدة لأن حالتها الظاهعرة لا تساعد على وزن صرفي، ثم قيل إن أصلها مشتقة من أي الاستفهامية كما اشتق الكم من كم الخبرية واللو من كلمة لو التي للتمني، وقبل مشتقة من أوى. والحق ان المشتق منه آية غير معروف الأًل وإنما ذكروا هذه الاحتمالات على وجه التردد ثم قال سيبويه: وزنها فعلة ايية، أو أوية، وقال الفراء وزنها فعلى بسكون العين اييه أو أوية وكان القياس حينئذ إدغام الياء في الياء أو قلب الواو ياء وإدغامها، لكنهم لما رأوا الحذف أخف عدلوا الإدغام لأن لإدغام حرفي علة لا يخلو من ثقل ولئلا يشتبه بأية مؤنث أي نحو بأية سنة. وقال الكسائي أصله آيية بوزن فاعلة فقلبت الياء الأولى همزة لوقوعها إثر أف فاعل ثم حذفت الهمزة . وفيها مذاهب أخرى.
[115]:- الطاية: السطح الذي يقام عليه. والطاية من الإبل: القطيع جمعهطايات وهو واوي. والثانية حجارة ترفع يجعلها الرعاة علامة على مواقعهم في الليل إذا رجعوا.