تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (26)

{ 26 - 29 } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }

يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه ، وهو خليل الرحمن ، فقال : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } أي : هيأناه له ، وأنزلناه إياه ، وجعل قسما من ذريته من سكانه ، وأمره الله ببنيانه ، فبناه على تقوى الله ، وأسسه على طاعة الله ، وبناه هو وابنه إسماعيل ، وأمره أن لا يشرك به شيئا ، بأن يخلص لله أعماله ، ويبنيه على اسم الله .

{ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } أي : من الشرك والمعاصي ، ومن الأنجاس والأدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه ، لشرفه ، وفضله ، ولتعظم محبته في القلوب ، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب ، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه ، لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده ، المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر ، وقراءة ، وتعلم علم وتعليمه ، وغير ذلك من أنواع القرب ، { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : المصلين ، أي : طهره لهؤلاء الفضلاء ، الذين همهم طاعة مولاهم وخدمته ، والتقرب إليه عند بيته ، فهؤلاء لهم الحق ، ولهم الإكرام ، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم ، ويدخل في تطهيره ، تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين ، بالصلاة والطواف ، وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة ، لاختصاصه بهذا البيت ، ثم الاعتكاف ، لاختصاصه بجنس المساجد .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ بَوّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِيَ لِلطّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مُعْلِمَه عظيم ما ركب من قومه قريش خاصة دون غيرهم من سائر خلقه بعبادتهم في حرمه ، والبيت الذي أمر إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم ببنائه وتطهيره من الاَفات والرّيَب والشرك : واذكر يا محمد كيف ابتدأنا هذا البيت الذي يعبد قومك فيه غيري ، إذ بوأنا لخليلنا إبراهيم ، يعني بقوله : «بوأنا » : وطّأنا له مكان البيت . كما :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : وَإذْ بَوّأْنْا لإِبْرَاهِيمَ مَكانَ البَيْتِ قال : وضع الله البيت مع آدم صلى الله عليه وسلم حين أهبط آدم إلى الأرض وكان مهبطه بأرض الهند ، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا . وإن آدم لمّا فَقَد أصوات الملائكة وتسبيحهم ، شكا ذلك إلى الله ، فقال الله : يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا يُطاف به كما يطاف حول عرشي ، ويُصلّى عنده كما يصلّى حول عرشي ، فانطَلِقْ إليه فخرج إليه ، ومدّ له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة ، فلم تزل تلك المفاوز على ذلك حتى أتى آدم البيت ، فطاف به ومن بعده من الأنبياء .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ، انطلق إبراهيم حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل ، وأخذا المعاول ، لا يدريان أين البيت ، فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخَجُوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأوّل ، واتبعاها بالمعاول يحفران ، حتى وضعا الأساس فذلك حين يقول : وَإذْ بَوّأْنا لإِبْرَاهِيمَ مَكانَ البَيْتِ .

ويعني بالبيت : الكعبة ، أنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئا في عبادتك إياي ، وَطَهّرْ بَيْتِيَ الذي بنيته من عبادة الأوثان . كما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : وَطَهّرْ بَيْتِيَ قال : من الشرك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، قال : من الاَفات والرّيب .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : طَهّرَا بَيْتِيَ قال : من الشرك وعبادة الأوثان .

وقوله : للطّائِفِينَ يعني للطائفين به . والقَائِمِينَ بمعنى المصلين الذين هم قيام في صلاتهم . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عطاء في قوله : وَطَهّرْ بَيْتِيَ للطّائِفِينَ والقائِمِينَ قال : القائمون في الصلاة .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : والقَائِمِينَ قال : القائمون المصلون .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : والقائمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ قال : القائم والراكع والساجد هو المصلي ، والطائف هو الذي يطوف به . وقوله : وَالرّكّعِ السّجُودِ يقول : والركع السجود في صلاتهم حول البيت .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (26)

المعنى واذكر { إذ بوأنا } ، و «بوأ » هي تعدية باء بالتضعيف ، و «باء » معناه رجع فكأن المبوِّىء يرد المبوأ إلى المكان ، واستعملت اللفظة بمعنى سكن ، ومنه قوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[8348]} [ الرمز : 74 ] وقال الشاعر :

كم من أخ لي صالح . . . بوأته بيديَّ لحدا{[8349]}

واللام في قوله تعالى : { لإبراهيم } قالت فرقة هي زائدة ، وقالت فرقة { بوأنا } نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا{[8350]} ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب { بوأنا } محذوفاً تقديره الناس أو العالمين ، ثم قال { لإبراهيم } بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا{[8351]} ، و { البيت } هو الكعبة ، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبداً لآدم عليه السلام ، ثم درس بالطوفان ، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه ، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثراً ، فبعث الله ريحاً فكشف له عن أساس آدم ، فرفع قواعده عليه . وقوله { أن لا تشرك } هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام ، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك ، وقرأ عكرمة «ألا يشرك » بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له ، قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون «أن » في قراءة الجمهور مفسرة ، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة{[8352]} ، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت ، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد ، وأنتم لم تفوا بل أشركتم ، وقالت فرقة : الخطاب من قوله { أن لا تشرك } لمحمد صلى عليه وسلم وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك إبراهيم وهو الأصح . وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك ، و «القائمون » ، هم المصلون ، وذكر تعالى من أركان الصلاة : أعظمها . وهي القيام والركوع والسجود .


[8348]:من قوله تعالى في الآية (74) من سورة (الزمر): {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء} بمعنى: ننزل ونسكن.
[8349]:هذا البيت لعمرو بن معد يكرب الزبيدي، فارس العرب المشهور، ويروى: (كم من أخ لي ماجد)، واللحد ـ بفتح اللام المشددة وبضمها ـ: الشق الذي يكون في جانب القبر موضع الميت؛ لأنه قد أميل عن وسطه إلى جانبه، قاله صاحب اللسان، فإن كان في وسطه فهو الضريح والضريحة. وبوأته: هيأت له وأنزلته فيه، وهو موضع الشاهد هنا.
[8350]:وقيل: اللام في قوله: {لإبراهيم} صلة للتأكيد، كقوله تعالى: {ردف لكم بعض الذي تستعجلون}، يقال: بوأته منزلا وبوأت له، كما يقال: مكنتك ومكنت لك. وقد ذكر الفراء القولين، وقال: إن قوله تبارك وتعالى: {ردف لكم} معناه: ردفكم.
[8351]:فاللام في {لإبراهيم} لام العلة، أي: لأجل إبراهيم وكرامة له.
[8352]:ويحتمل أن تكون زائدة، كقوله تعالى في سورة يوسف: {فلما أن جاء البشير}، وقد أجاب الزمخشري عن سؤال يعرض إذا قدرنا [أن] مفسرة، وتقدير السؤال: كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة؟ أجاب الزمخشري بقوله: "كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، فكأنه قيل: تعبدنا إبراهيم، قلنا له: لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله".