{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَىَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ }
يعني جل ذكره بقوله : فَقُلْنا لقوم موسى الذين ادّارءوا في القتيل الذي قد تقدم وصفنا أمره : اضربوا القتيل . والهاء التي في قوله : اضْرِبُوهُ من ذكر القتيل ببعضها أي ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها .
ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة وأيّ عضو كان ذلك منها ، فقال بعضهم : ضرب بفخذ البقرة القتيل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ضرب بفخذ البقرة ، فقام حيا ، فقال : قتلني فلان ثم عاد في ميتته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ضرب بفخذ البقرة ، ثم ذكر مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جرير بن نوح ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة : فقلنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها قال : بفخذها فلما ضرب بها عاش وقال : قتلني فلان ثم عاد إلى حاله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن خالد بن يزيد ، عن مجاهد ، قال : ضرب بفخذها الرجل فقام حيا ، فقال : قتلني فلان ، ثم عاد في ميتته .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الزراق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال أيوب عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، ضربوا المقتول ببعض لحمها . وقال معمر عن قتادة : ضربوه بلحم الفخذ فعاش ، فقال : قتلني فلان .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها فأحياه الله ، فأنبأ بقاتله الذي قتله وتكلم ، ثم مات .
وقال آخرون : الذي ضرب به منها هو البَضْعة التي بين الكتفين . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش ، فسألوه : من قتلك ؟ فقال لهم : ابن أخي .
وقال آخرون : الذي أمروا أن يضربوه به منها عظم من عظامها . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا ، فرجع إليه روحه ، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان . فأخذ قاتله وهو الذي أتى موسى فشكا إليه فقتله الله على سوء عمله . وقال آخرون بما :
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ضربوا الميت ببعض آرابها ، فإذا هو قاعد ، قالوا : من قتلك ؟ قال : ابن أخي . قال : وكان قتله وطرحه على ذلك السبط ، أراد أن يأخذ ديته .
والصواب من القول في تأويل قوله عندنا : فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا أن يقال : أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب . ولا دلالة في الآية ولا خبر تقوم به حجة على أيّ أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به . وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ ، وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف وغير ذلك من أبعاضها . ولا يضرّ الجهل بأيّ ذلك ضربوا القتيل ، ولا ينفع العلم به مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها ، فأحياه الله .
فإن قال قائل : وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها ؟ قيل : ليحيا فينبىء نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادّارءوا فيه من قاتله .
فإن قال قائل : وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك ؟ قيل : ترك ذلك اكتفاءً بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى . ومعنى الكلام : فقلنا : اضربوه ببعضها ليحيا ، فضربوه فحيي كما قال جل ثناؤه : أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ والمعنى : فضرب فانفلق . يدل على ذلك قوله : كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى ويُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى .
وقوله : كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى مخاطبة من الله عباده المؤمنين ، واحتجاج منه على المشركين المكذّبين بالبعث ، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا ، فقال لهم تعالى ذكره : أيها المكذّبون بالبعث بعد الممات ، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته ، فإني كما أحييته في الدنيا فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم ، فأبعثهم يوم البعث ، فإنما احتجّ جل ذكره بذلك على مشركي العرب وهم قوم أُمّيون لا كتاب لهم ، لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم وفيهم نزلت هذه الآيات ، فأخبرهم جل ذكره بذلك ليتعرّفوا علم من قبلهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ .
يعني جل ذكره : ويريكم الله أيها الكافرون المكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله من آياته ، وآياته : أعلامه وحججه الدالة على نبوّته لتعقلوا وتفهموا أنه محقّ صادق فتؤمنوا به وتتبعوه .
{ فقلنا اضربوه } عطف على ادارأتم وما بينها اعتراض ، والضمير للنفس والتذكير على تأويل الشخص أو القتيل { ببعضها } أي بعض كان وقيل : بأصغريها . وقيل بلسانها . وقيل بفخذها اليمنى وقيل بالأذن . وقيل بالعجب { كذلك يحيي الله الموتى } يدل على ما حذف وهو فضربوه فحيي ، والخطاب مع من حضر حياة القتيل ، أو نزول الآية { ويريكم آياته } دلائله على كمال قدرته .
{ لعلكم تعقلون } لكي يكمل عقلكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها ، أو تعملوا على قضيته . ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرب وأداء الواجب ، ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل والشفقة على الأولاد ، وأن من حق الطالب أن يقدم قربة ، والمتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالي بثمنه ، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار . وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى ، والأسباب أمارات لا إثر لها ، وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوه الساعي في إماتته الموت الحقيقي ، فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوة الشهوية حين زال عنها شره الصبا ، ولم يلحقها ضعف الكبر ، وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا ، مسلمة عن دنسها لا سمة بها من مقابحها بحيث يصل أثره إلى نفسه فتحيا حياة طيبا ، وتعرب عما به ينكشف الحال ، ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع .
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 73 )
وقوله : { اضربوه ببعضها } آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله ، فقيل : ضربوه ، وقيل : ضربوا قبره ، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر ، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة ، وقال القرظي : لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد ، وقال السدي : ضرب باللحمة التي بين الكتفين( {[801]} ) ، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني : ضرب بالفخذ ، وقيل : ضرب باللسان ، وقيل : بالذنب ، وقال أبو العالية : بعظم من عظامها .
وقوله تعالى : { كذلك يحيي الله الموتى } الآية ، الإشارة ب { كذلك } إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية ، إذ في الكلام حذف ، تقديره : فضربوه فحيي ، وفي هذه الآية حض على العبر ، ودلالة على البعث في الآخرة : وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل ، حينئذ حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة ، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنها مقطوعة من قوله تعالى : { اضربوه ببعضها }( {[802]} ) ، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتاً كما كان ، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل( {[803]} ) وأن تقع معه القسامة .
قوله : { كذلك يحي الله الموتى } الإشارة إلى محذوف للإيجاز أي فضربوه فحيي فأخبر بمن قتله أي كذلك الإحياء يحي الله الموتى فالتشبيه في التحقق وإن كانت كيفية المشبه أقوى وأعظم لأنها حياة عن عدم بخلاف هاته فالمقصد من التشبيه بيان إمكان المشبه كقول المتنبي :
فإن تفق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال
وقوله : { كذلك يحي الله الموتى } من بقية المقول لبني إسرائيل فيتعين أن يقدر وقلنا لهم كذلك يحي الله الموتى لأن الإشارة لشيء مشاهد لهم وليس هو اعتراضاً أريد به مخاطبة الأمة الإسلامية لأنهم لم يشاهدوا ذلك الإحياء حتى يشبه به إحياء الله الموتى .
وقوله : { لعلكم تعقلون } رجاء لأن يعقلوا فلم يبلغ الظن بهم مبلغ القطع مع هذه الدلائل كلها .
وقد جرت عادة فقهائنا أن يحتجوا بهذه الآية على مشروعية اعتبار قول المقتول : دمي عند فلان موجباً للقسامة ويجعلون الاحتجاج بها لذلك متفرعاً على الاحتجاج بشرع من قبلنا ، وفي ذلك تنبيه على أن محل الاستدلال بهذه الآية على مشروعية ذلك هو أن إحياء الميت لم يقصد منه إلاَّ سماع قوله فدل على أن قول المقتول كان معتبراً في أمر الدماء . والتوراة قد أجملت أمر الدماء إجمالاً شديداً في قصة ذبح البقرة التي قدمناها ، نعم إن الآية لا تدل على وقوع القسامة مع قول المقتول ولكنها تدل على اعتبار قول المقتول سبباً من أسباب القصاص ، ولما كان الظن بتلك الشريعة أن لا يقتل أحد بمجرد الدعوى من المطعون تعين أن هنالك شيئاً تقوى به الدعوى وهو القسامة .
وقد أورد على احتجاج المالكية بها أن هذا من خوارق العادات وهي لا تفيد أحكاماً وأجاب ابن العربي بأن المعجزة في إحياء الميت فلما حيي صار كلامه ككلام سائر الأحياء ، وهو جواب لطيف لكنه غير قاطع .
والخلاف في القضاء بالقسامة إثباتاً ونفياً وفي مقدار القضاء بها مبسوط في كتب الفقه وقد تقصاه القرطبي وليس من أغراض الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يحيي الله الموتى ويريكم آياته}، فكان ذلك من آياته وعجائبه، {لعلكم} يقول: لكي {تعقلون} فتعتبروا في البعث، وإنما فعل الله ذلك بهم، لأنه كان في بني إسرائيل من يشك في البعث، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه قادر على أن يبعث الموتى، وذلك قوله سبحانه، {لعلكم تعقلون} فتعتبروا في البعث...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جل ذكره بقوله: فَقُلْنا لقوم موسى الذين ادّارءوا في القتيل الذي قد تقدم وصفنا أمره: اضربوا القتيل. والهاء التي في قوله: اضْرِبُوهُ من ذكر القتيل ببعضها أي ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة وأيّ عضو كان ذلك منها، فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل... فقام حيا، فقال: قتلني فلان ثم عاد في ميتته.
وقال آخرون: الذي ضرب به منها هو البَضْعة التي بين الكتفين... وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها عظم من عظامها... وقال آخرون: ضربوا الميت ببعض آرابها.
والصواب من القول في تأويل قوله عندنا:"فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا" أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية ولا خبر تقوم به حجة على أيّ أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ، وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضرّ الجهل بأيّ ذلك ضربوا القتيل، ولا ينفع العلم به مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها، فأحياه الله.
فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادّارءوا فيه من قاتله.
فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاءً بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي كما قال جل ثناؤه: "أن اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ "والمعنى: فضرب فانفلق. يدل على ذلك قوله: "كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى ويُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ".
" كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى": مخاطبة من الله عباده المؤمنين، واحتجاج منه على المشركين المكذّبين بالبعث، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا، فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذّبون بالبعث بعد الممات، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته، فإني كما أحييته في الدنيا فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم، فأبعثهم يوم البعث، فإنما احتجّ جل ذكره بذلك على مشركي العرب وهم قوم أُمّيون لا كتاب لهم، لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم وفيهم نزلت هذه الآيات، فأخبرهم جل ذكره بذلك ليتعرّفوا علم من قبلهم.
" وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ": ويريكم الله أيها الكافرون المكذّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله من آياته، وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوّته لتعقلوا وتفهموا أنه محقّ صادق فتؤمنوا به وتتبعوه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هلا أحياه ابتداء؟ ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ قلت: في الأسباب والشروط حكم وفوائد. وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرّب وأداء التكاليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم لتشديدهم من اللطف لهم، ولآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى وارتسامها على الفور، من غير تفتيش وتكثير سؤال، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البرّ بالوالدين، والشفقة على الأولاد، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء، وبيان أنّ من حق المتقرّب إلى ربه أن يتنوّق في اختيار ما يتقرّب به، وأن يختاره فتيّ السنِّ غير قحم ولا ضرع، حسن اللون برياً من العيوب يونق من ينظر إليه، وأن يغالى بثمنه، كما يروى عن عمر رضي الله عنه: أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار، وأنّ الزيادة في الخطاب نسخ له، وأن النسخ قبل الفعل جائز وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء، وليعلم بما أمر من مسّ الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن تتولد منهما حياة.
فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدّم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذا قتلتم نفساً فادّارأتم فيها فقلنا: اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت: كل ما قصّ من قصص بني إسرائيل إنما قصّ تعديداً لما وجد منهم من الجنايات، وتقريعاً لهم عليها، ولمّا جدّد فيهم من الآيات العظام. وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك. والثانية للتقريع على قتل النفس المحرّمة وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى، دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: {اضربوه بِبَعْضِهَا} حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيتهِ بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {كذلك يحيي الله الموتى} الآية، الإشارة ب {كذلك} إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره: فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبر، ودلالة على البعث في الآخرة: وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله تعالى: {اضربوه ببعضها}، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتاً كما كان، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والفساد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في إحياء الموتى، في خمسة مواضع: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56]. وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة. ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن. فيم كانت هذه الوسيلة، والله قادر على أن يحيي الموتى بلا وسيلة؟ ثم ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث؟
إن البقر يذبح قربانا كما كانت عادة بني إسرائيل.. وبضعة من جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل. وما في هذه البضعة حياة ولا قدرة على الإحياء.. إنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله، التي لا يعرف البشر كيف تعمل. فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و: (كذلك يحيي الله الموتى).. كذلك بمثل هذا الذي ترونه واقعا ولا تدرون كيف وقع؛ وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر.
إن المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس. ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير.. كيف؟.. هذا ما لا أحد يدريه. وما لا يمكن لأحد إدراكه.. إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية، لا سبيل إليه في عالم الفانين! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها: (ويريكم آياته لعلكم تعقلون)..
وأخيرا نجيء إلى جمال الأداء وتناسقه مع السياق..
هذه قصة قصيرة نبدأها، فإذا نحن أمام مجهول لا نعرف ما وراءه. نحن لا نعرف في مبدأ عرض القصة لماذا يأمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، كما أن بني إسرائيل إذ ذاك لم يعرفوا، وفي هذا اختبار لمدى الطاعة والاستجابة والتسليم.
ثم تتابع الحوار في عرض القصة بين موسى وقومه، فلا نرى الحوار ينقطع ليثبت ما دار بين موسى وربه؛ على حين أنهم كانوا في كل مرة يطلبون منه أن يسأل ربه، فكان يسأله، ثم يعود إليهم بالجواب.. ولكن سياق القصة لا يقول:إنه سأل ربه ولا إن ربه أجابه.. إن هذا السكوت هو اللائق بعظمة الله، التي لا يجوز أن تكون في طريق اللجاجة التي يزاولها بنو إسرائيل!
ثم تنتهي إلى المباغتة في الخاتمة -كما بوغت بها بنو إسرائيل- انتفاض الميت مبعوثا ناطقا، على ضربة من بعض جسد لبقرة بكماء مذبوحة، ليس فيها من حياة ولا مادة حياة!
ومن ثم يلتقي جمال الأداء التعبيري بحكمة السياق الموضوعية في قصة قصيرة من القصص القرآني الجميل.