تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

{ 145 ، 146 } { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }

لما ذكر تعالى ذم المشركين على ما حرموا من الحلال ونسبوه إلى الله ، وأبطل قولهم . أمر تعالى رسوله أن يبين للناس ما حرمه الله عليهم ، ليعلموا أن ما عدا ذلك حلال ، مَنْ نسب تحريمه إلى الله فهو كاذب مبطل ، لأن التحريم لا يكون إلا من عند الله على لسان رسوله ، وقد قال لرسوله : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ } أي : محرما أكله ، بقطع النظر عن تحريم الانتفاع بغير الأكل وعدمه .

{ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } والميتة : ما مات بغير ذكاة شرعية ، فإن ذلك لا يحل . كما قال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ }

{ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذكاتها ، فإنه الدم الذي يضر احتباسه في البدن ، فإذا خرج من البدن زال الضرر بأكل اللحم ، ومفهوم هذا اللفظ ، أن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح ، أنه حلال طاهر .

{ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } أي : فإن هذه الأشياء الثلاثة ، رجس ، أي : خبث نجس مضر ، حرمه الله لطفا بكم ، ونزاهة لكم عن مقاربة الخبائث .

{ أَوْ } إلا أن يكون { فسقا أهل لغير الله به } أي : إلا أن تكون الذبيحة مذبوحة لغير الله ، من الأوثان والآلهة التي يعبدها المشركون ، فإن هذا من الفسق الذي هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته ، أي : ومع هذا ، فهذه الأشياء المحرمات ، من اضطر إليها ، أي : حملته الحاجة والضرورة إلى أكل شيء منها ، بأن لم يكن عنده شيء وخاف على نفسه التلف . { غَيْرَ بَاغٍ ولا عاد } أي : { غَيْرَ بَاغٍ } أي : مريدٍ لأكلها من غير اضطرار وَلَا متعد ، أي : متجاوز للحد ، بأن يأكل زيادة عن حاجته . { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فالله قد سامح من كان بهذه الحال .

واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحصر المذكور في هذه الآية ، مع أن ثَمَّ محرمات لم تذكر فيها ، كالسباع وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك ، فقال بعضهم : إن هذه الآية نازلة قبل تحريم ما زاد على ما ذكر فيها ، فلا ينافي هذا الحصر المذكور فيها التحريم المتأخر بعد ذلك ؛ لأنه لم يجده فيما أوحي إليه في ذلك الوقت ، وقال بعضهم : إن هذه الآية مشتملة على سائر المحرمات ، بعضها صريحا ، وبعضها يؤخذ من المعنى وعموم العلة .

فإن قوله تعالى في تعليل الميتة والدم ولحم الخنزير ، أو الأخير منها فقط : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } وصف شامل لكل محرم ، فإن المحرمات كلها رجس وخبث ، وهي من الخبائث المستقذرة التي حرمها الله على عباده ، صيانة لهم ، وتكرمة عن مباشرة الخبيث الرجس .

ويؤخذ تفاصيل الرجس المحرم من السُنَّة ، فإنها تفسر القرآن ، وتبين المقصود منه ، فإذا كان الله تعالى لم يحرم من المطاعم إلا ما ذكر ، والتحريم لا يكون مصدره ، إلا شرع الله -دل ذلك على أن المشركين ، الذين حرموا ما رزقهم الله مفترون على الله ، متقولون عليه ما لم يقل .

وفي الآية احتمال قوي ، لولا أن الله ذكر فيها الخنزير ، وهو : أن السياق في نقض أقوال المشركين المتقدمة ، في تحريمهم لما أحله الله وخوضهم بذلك ، بحسب ما سولت لهم أنفسهم ، وذلك في بهيمة الأنعام خاصة ، وليس منها محرم إلا ما ذكر في الآية : الميتة منها ، وما أهل لغير الله به ، وما سوى ذلك فحلال .

ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا الاحتمال ، أن بعض الجهال قد يدخله في بهيمة الأنعام ، وأنه نوع من أنواع الغنم ، كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم ، فينمونها كما ينمون المواشي ، ويستحلونها ، ولا يفرقون بينها وبين الأنعام ، فهذا المحرم على هذه الأمة كله{[303]}  من باب التنزيه لهم والصيانة .


[303]:- في ب: كلها.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ رَبّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ولشركائهم من الاَلهة والأنداد مثله والقائلين هَذهِ أنعامٌ وحرْثٌ حِجْرٌ لا يطْعمُها إلاّ مَنْ نشاءُ بِزَعمِهمْ والمحرّمين من أنعام أُخَر ظهورها ، والتاركين ذكر اسم الله على أُخَر منها ، والمحرّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم ومحلّية لذكورهم ، المحرّمين ما رزقهم الله افتراء على الله ، وإضافة منهم ما يحرّمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرّمه عليهم : أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم ، فأنبئونا به ، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرّمتموه ؟ فإنكم كذبة إن ادّعيتم ذلك ولا يمكنكم دعواه ، لأنكم إذا ادّعيتموه علم الناس كذبكم ، فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنزيله شيئا محرّما على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرّمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرّم عليكم منها بزعمكم ، إلا أن يكون ميتة قد ماتت بغير تذكية أو دما مسفوحا وهو المنصبّ أو إلا أن يكون لحم خنزير . فإنّه رِجْسٌ أو فِسْقا يقول : أو إلا أن يكون فسقا ، يعني بذلك : أو إلا أن يكون مذبوحا ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر عليه اسم وثنه ، فإن ذلك الذبح فسق نهى الله عنه وحرّمه ، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك ، لأنه ميتة . وهذا إعلام من الله جلّ ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبيّ الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرّمه الله ، وأن الذي زعموا أن الله حرّمه حلال قد أحله الله ، وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أِل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، في قوله : قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء ويحلون أشياء ، فقال : قل لا أجد مما كنتم تحرّمون وتستحلون إلا هذا إلاّ أنْ يكونَ مَيْتَةً أوْ دَما مَسْفُوحا أوْ لحمَ خِنزِيرٍ فإنّهُ رِجْسٌ أوْ فِسْقا أُهِلّ لِغيرِ اللّهِ بِهِ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، في قوله : قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما . . . الاَية ، قال : كان أهل الجاهلية يستحلون أشياء ويحرّمون أشياء ، فقال الله لنبيه : قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما مما كنتم تستحلون إلا هذا وكانت أشياء يحرّمونها فهي حرام الاَن .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مْحَرّما على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ قال : ما يؤكل . قلت : في الجاهلية ؟ قال : نعم وكذلك كان يقول : إلاّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَما مَسْفُوحا . قال ابن جريج : وأخبرني إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد : قُلْ لا أجدُ فيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما قال : مما كان في الجاهلية يأكلون ، لا أجد محرّما من ذلك على طاعم يطعمه ، إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا .

وأما قوله : أوْ دَما مَسْفُوحا فإن معناه : أو دما مسالاً مُهَراقا ، يقال منه : سفحت دمه : إذا أرقته ، أسفحه سَفْحا ، فهو دم مسفوح ، كما قال طرفة بن العبد :

إنّي وَجَدّكَ ما هَجَوْتُكَ والْ ***أنْصَابِ يُسْفَحُ فَوْقَهُنّ دَمُ

وكما قال عبيد بن الأبرص :

إذَا ما عادَهُ مِنّا نِساءٌ ***سَفَحْنَ الدّمْعَ مِنَ بعدِ الرّنِينِ

يعني : صببن ، وأسلن الدمع . وفي اشتراطه جلّ ثناؤه في الدم عند إعلامه عباده تحريمه إياه المسفوح منه دون غيره ، الدليل الواضح أن ما لم يكن منه مسفوحا فحلال غير نجس . وذلك كالذي :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة : أوْ دَما مَسْفُوحا قال : لولا هذه الاَية لتتبع المسلمون من العروق ما تتبعت اليهود .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة بنحوه ، إلا أنه قال : لاتبع المسلمون .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة بنحوه .

حدثنا أبو كريب ، قال : أخبرنا وكيع ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، في القِدر يعلوها الحمرة من الدم ، قال : إنما حرّم الله الدم المسفوح .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، قال : سألته عن الدم ، وما يتلطخ بالمذبح من الرأس ، وعن القدر يرى فيها الحمرة ، قال : إنما نهى الله عن الدم المسفوح .

حدثنا محمدبن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أوْ دَما مَسْفُوحا قال : حرّم الدم ما كان مسفوحا وأما لحم خالطه دم فلا بأس به .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَما مَسْفُوحا يعني مُهَراقا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أخبرني ابن دينار ، عن عكرمة : أوْ دَما مَسْفُوحا قال : لولا هذه الاَية لتتبع المسلمون عروق اللحم ما تتبعها اليهود .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة : أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسا ، والحمرة والدم يكونان على القدر بأسا . وقرأت هذه الاَية : قُلْ لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ . . . الاَية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يحيى بن سعيد ، ثني القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت ، وذكرت هذه الاَية أوْ دَما مَسْفُوحا قلت : وإن البُرْمة ليرى في مائها الصفرة .

وقد بينا معنى الرجس فيما مضى من كتابنا هذا ، وأنه النجس والنتن ، وما يعصى الله به ، بشواهده ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع . وكذلك القول في معنى الفسق ، وفي قوله : أُهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ قد مضى ذلك كله بشواهده الكافية من وفق لفهمه عن تكراره وإعادته .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إلاّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة : إلاّ أنْ يَكُونَ بالياء مَيْتَةً مخففة الياء منصوبة على أن في يكون مجهولاً ، والميتة فعل له فنصبت على أنها فعل يكون ، وذكروا يكون لتذكير المضمر في «يكون » . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والكوفة : «إلاّ أنْ تَكُونَ » بالتاء «مَيْتَةً » بتخفيف الياء من الميتة ونصبها . وكأن معنى نصبهم الميتة معنى الأوّلين ، وأنثوا تكون لتأنيث الميتة ، كما يقال : إنها قائمة جاريتك ، وإنه قائم جاريتك ، فيذكر المجهول مرّة ويؤنث أخرى لتأنيث الاسم الذي بعده . وقرأ ذلك بعض المدنيين : «إلاّ أنْ تَكُونَ مَيّتَةٌ » بالتاء في «تكون » ، وتشديد الياء من «ميتة » ورفعها ، فجعل «الميتة » اسم «تكون » ، وأنث «تكون » لتأنيث «الميتة » ، وجعل «تكون » مكتفية بالاسم دون الفعل ، لأنه قوله : «إلاّ أنْ تَكُونَ مَيْتَةً » استثناء ، والعرب تكتفي في الاستثناء بالأسماء عن الأفعال ، فيقولون : قام الناس إلا أن يكون أخاك ، وإلا أن يكون أخوك ، فلا تأتي ليكون بفعل ، وتجعلها مستغنية بالاسم ، كما يقال : قام القوم إلا أخاك وإلا أخوك ، فلا يعتد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء نفلاً .

والصواب من القراءة في ذلك عندي : إلاّ أنْ يَكُونَ بالياء مَيْتَةً بتخفيف الياء ونصب الميتة ، لأن الذي في «يكون » من المكنىّ من ذكر المذكر ، وإنما هو : قُلْ لا أجد فيما أوحي إليّ محرّما على طاعم يطعمه ، إلا أن يكون ذلك ميتة أو دما مسفوحا . فأما قراءة «ميتةٌ » بالرفع ، فإنه وإن كان في العربية غير خطأ فإنه في القراءة في هذا الموضع غير صواب ، لأن الله يقول : أوْ دَما مَسْفُوحا فلا خلاف بين الجميع في قراءة الدم بالنصب ، وكذلك هو في مصاحب المسلمين ، وهو عطف على «الميتة » . فإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الميتة لو كانت مرفوعة لكان الدم وقوله «أو فسقا » مرفوعين ، ولكنها منصوبة فيعطف بهما عليها بالنصب .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرّ غيرَ باغٍ وعلا عادٍ فإنّ رَبّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غيرَ باعٍ وَلا عادٍ . والصواب من القول فيه عندنا فيما مضى من كتابنا هذا في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وأن معناه : فمن اضطّر إلى أكل ما حرّم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير ، أو ما أهلّ لغير الله به ، غير باغ في أكله إياه تلذّذا ، لا لضرورة حالة من الجوع ، ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حدّه الله وأباحه له من أكله ، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه ، فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك . فإنّ اللّهَ غَفُورٌ فيما فعل من ذلك ، فساتر عليه بتركه عقوبته عليه ، ولو شاء عاقبه عليه . رَحِيمٌ باباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه ، ولوشاء حرمه عليه ومنعه منه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

{ قل لا أجد فيما أوحي إلي } أي في القرآن ، أو فيما أوحي إلي مطلقا ، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى . { محرما } طعاما محرما . { على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } أن يكون الطعام ميتة ، وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر ، وقرأ ابن عامر بالياء ، ورفع ال{ ميتة } على أن كان هي التامة وقوله : { أو دما مسفوحا } عطف على أن مع ما في حيزه أي : إلا وجود ميتة أو دم مسفوحا ، أي مصبوبا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال . { أو لحم خنزير فإنه رجس } فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعدوه أكل النجاسة أو خبيث محنث { أو فسقا } عطف على لحم خنزير . وما بينهما اعتراض للتعليل . { أهل لغير الله به } صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله في الفسق ، ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له من أهل وهو عطف على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون . { فمن اضطر } فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك { غير باغ } على مضطر مثله . { ولا عاد } قدر الضرورة { فإن ربك غفور رحيم } لا يؤاخذه ، والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرما غير هذه ، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء أخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (145)

هذا أمر من الله عز وجل بأن يشرع للناس جميعاً ويبين عن الله ما أوحي إليه ، وهذه الآية نزلت بمكة ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، فإن هذه وإن كانت في حكم الميتة فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات لأنها بأسباب وليست حتف الأنف{[5129]} ، فلما بين النص إلحاقها بالميتة كانت زيادة في المحرمات ، ثم نزل النص على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر بوحي غير مُنْجَز ، وبتحريم كل ذي ناب من السباع ، فهذه كلها زيادات في التحريم ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر ، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها ، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع عليه الكل منهم ولم يضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وأمضاه الناس على أذلاله{[5130]} وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير والميتة ، وهذه صفة تحريم الخمر وما اقترنت به قرينة ألفاظ الحديث واختلفت الأمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام »{[5131]} .

وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع{[5132]} ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهية ونحوها ، وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنها نجس ، وتأول بعضهم ذلك لئلا تفنى حمولة الناس ، وتأول بعضهم التحريم المحض ، وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها .

وروي عن ابن عامر أنه قرأ «فيما أَوحَى إلي » بفتح الهمزة والحاء وقرأ جمهور الناس يطعمه وقرأ أبو جعفر محمد بن علي «يطّعِمه » بتشديد الطاء وكسر العين ، وقرأ محمد بن الحنفية وعائشة وأصحاب عبد الله «طعمه » بفعل ماض ، وقرأ نافع والكسائي وأبو عمرو وعاصم «إلا أن يكون » بالياء على تقدير إلا أن يكون المطعوم ، وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو أيضاً «إلا أن تكون » بالتاء من فوق «ميتة » على تقدير إلا أن تكون المطعومة ، وقرأ ابن عامر وحده وذكرها مكي عن ابي جعفر «إلا أن تكون » بالتاء «ميتةٌ » بالرفع على أن تجعل «تكون » بمعنى تقع ، ويحتاج على هذه القراءة أن يعطف { أو دماً } على موضع «أن تكون » ، لأنها في موضع نصب بالاستثناء ، والمسفوح الجاري الذي يسيل ، وجعل الله هذا فرقاً بين القليل والكثير ، والمسفوح : السائل من الدم ونحوه ، ومنه قول الشاعر وهو طرفة :

إذا ما عَادهُ مِنّا نِساءٌ . . . سَفَحْنَ الدَّمْعَ مِنْ بعْدِ الرَّنِينِ{[5133]}

وقول امرىء القيس :

وإن شفائي عبرة إن سفحتها . . . وهل عند رسم دارس من معول{[5134]}

فالدم المختلط باللحم ، والدم الخارج من مرق اللحم ، وما شاكل هذا حلال ، والدم غير المسفوح هو هذا وهو معفوّ عنه ، وقيل لأبي مجلز في القدر تعلوها الحمرة من الدم قال : إنما حرم الله المسفوح ، وقالت نحوه عائشة وغيرها وعليه إجماع العلماء .

وقيل : الدم حرام لأنه إذا زايل فقد انسفخ ، و «الرجس » النتن والحرام ، يوصف بذلك الأجرام والمعاني كما قال عليه السلام : «دعوها فإنها منتنة »{[5135]} ؛ الحديث ، فكذلك قيل في الأزلام والخمر رجس ، والرجس أيضاً العذاب لغة بمعنى الرجز ، وقوله { أو فسقاً } يريد ذبائحهم التي يختصون بها أصنامهم ، وقوله تعالى : { فمن اضطر } الآية ، أباح الله فيها مع الضرورة ركوب المحظور دون بغي .

واختلف الناس فيم ذا ؟ فقالت فرقة دون أن يبغي الإنسان في أكله فيأكل فوق ما يقيم رمقه وينتهي إلى حد الشبع وفوقه ، وقالت فرقة : بل دون أن يبغي في أن يكون سفره في قطع طريق أو قتل نفس أو يكون تصرفه في معصية فإن ذلك لا رخصة له ، وأما من لم يكن بهذه الأحوال فاضطر فله أن يشبع ويتزود ، وهذا مشهور قول مالك بن أنس رحمه الله ، وقال بالأول الذي هو الاقتصار على سد الرمق عبد المالك بن حبيب رحمه الله ، وقوله { فإن ربك غفور رحيم } إباحة تعطيها قوة اللفظ{[5136]} .


[5129]:- يقال: مات حتف أنفه وحتف أنفيه: مات على فراشه بلا ضرب ولا قتل، وقد يقال: مات حتف فيه، وذلك أن العرب كانت تتخيل أن المرء إذا قتل خرج روحه من مقتله، فإذا مات بلا قتل فقد خرج روحه من أنفه أو من فيه. (المعجم الوسيط).
[5130]:- يقال: أجر الأمور على أذلاها، وإن قضاء الله ماض على أذلاله، ودعه على أذلاله، أي: كما هو- وفي حديث ابن مسعود: (ما من شيء من كتاب الله إلا وقد جاء على أذلاله). والمعنى في ذلك كله أن الأمور جاءت سهلة على مجاريها ومسالكها. ومفرد أذلال: ذل بكسر الذال يقال: الزم ذل الطريق، أي السهل المعبد منه، ولذلك قيل: طريق مذلل، أي معبّد. (أساس البلاغة).
[5131]:- رواه الإمام أحمد ولفظه: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام).
[5132]:- أخرجه مسلم، والبخاري، والترمذي، وأبو داود في سننه، ولفظه كما في مسلم: (عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع)، وفي رواية (وعن كل ذي مخلب من الطير)
[5133]:- البيت في ديوانه (طبعة ليدن سنة 1913) وفيه: (منها) بدلا من (منا) و(صفحن) بدلا من (سفحن)، ومعنى (سفح) أرقن، والرنين: البكاء بصوت. والحديث عن رجل طعنه بالرمح طعنة قوية وكان يحاول أن يقوم منها فلا يستطيع، وإذا ما عاده النساء بكين عليه بصوت مرتفع وسفحن الدمع حزنا عليه.
[5134]:- العبرة: الدمعة، وسفحتها: أرقتها، ودرس: عفا وذهب أثره. ومن معوّل: من مبكى، مأخوذ من العويل وهو الصياح عند البكاء، وقد يكون المعنى: من أمر يعوّل عليه، أي يُعتمد عليه.
[5135]:- الحديث رواه البخاري في تفسير سورة المنافقين، وكذلك الترمذي، ورواه مسلم في البر، ورواه الإمام أحمد، ولفظه كما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا في غزاة. فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية، قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة...إلخ الحديث وهو طويل)- ومعنى (كسع) ضربه بيده في دبره، ومعنى (منتنه) مذمومة في الشرع مجتنبة مكروهة كما يُجتنب الشيء النّتن. (عن ابن الأثير في النهاية).
[5136]:- اختلف العلماء في الآية الكريمة: (قل لا أجد في ما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه...) أهي محكمة أم منسوخة؟ فقيل: هي محكمة، وعلى هذا فلا شيء محرم من الحيوان إلا فيها، وليس هذا مذهب الجمهور، وقيل: هي منسوخة بآية المائدة: (حرمت عليكم الميتة والدم) وينبغي أن يفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط، وقيل: جميع ما حرّم داخل في الاستثناء هنا سواء أكان بنص القرآن أو حديث عن الرسول صلى الله وسلم بالاشتراك في العلة وهي الرجسية.