{ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ } أي : لطرح في العراء ، وهي الأرض الخالية { وَهُوَ مَذْمُومٌ } ولكن الله تغمده{[1202]} برحمته فنبذ وهو ممدوح ، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى ، ولهذا قال : { فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ }
وقوله : لَوْلا أنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبّهِ يقول جلّ ثناؤه : لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من ربه ، فرحمه بها ، وتاب عليه من مغاضبته ربه لَنُبِذَ بالعَرَاءِ وهو الفضاء من الأرض : ومنه قول بن جَعْدة :
وَرَفَعْتُ رِجْلاً لا أخافُ عِثارَها *** وَنَبَذْتُ بالبَلَدِ العَرَاءِ ثِيابِي
وَهُوَ مَذْمُومٌ اختلف أهل التأويل في معنى قوله : وَهُوَ مَذْمُومٌ فقال بعضهم : معناه وهو مُلِيم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَهُوَ مَذْمُومٌ يقول : وهو مليم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وهو مذنب ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه عن بكر وَهُوَ مَذْمُومٌ قال : هو مذنب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ولكن تداركه نعمة يعني، رحمة من ربه، فنبذناه بالعراء وهو سقيم.
والعراء: البراز، يعني: لألقي بالبراز، وهو مذموم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من ربه، فرحمه بها، وتاب عليه من مغاضبته ربه، لَنُبِذَ بالعَرَاءِ وهو: الفضاء من الأرض.
"وَهُوَ مَذْمُومٌ": اختلف أهل التأويل في معنى قوله: "وَهُوَ مَذْمُومٌ":
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهو مذنب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
نعمة من ربك: هي ما وفقه للتوبة والإنابة وما قبل منه توبته، وكان له ألا يقبلها؛ إذ هو إنما أتى ربه بالتوبة بعد أن صار إلى تلك المضائق، وابتلي بالشدائد، وجاءه بأس الله. ومن حكمه أنه لا يقبل التوبة بعد نزول العذاب والشدة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} إلى قوله: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا}؟ [غافر: 84و 85]، فإذا قبل توبته كان فيه عظيم نعمة من الله تعالى عليه.
{لنبذ بالعراء} هو المكان الخالي، فلو لم يتب إلى الله تعالى لكان يلبث {في بطنه إلى يوم يبعثون} [الصافات: 144] ثم نبذ بعد ذلك {بالعراء وهو مذموم} لكن الله تعالى تفضل عليه بقبول توبته {فنبذناه بالعراء وهو سقيم} [الصافات: 145] محموم.
{لنبذ بالعراء وهو مذموم} لو عاقبه بالنبذ. ولكن إنما نبذ بالعراء بعد قبول التوبة، فلم يصر مذموما.
{لولا أن تداركه نعمة من ربه} فنعمته عليه كانت من ثلاثة أوجه:
أحدها: في تذكير الزلة، وذلك كان بالتقام الحوت إياه، وكان عنده مفارقته قومه لم تكن زلة، لأنه إنما فارقهم لأن قومه كانوا له أعداء في الدين، ففارقهم لينجو منهم، وليسلم له دينه، ولا يسمع المكروه في الله تعالى.
والثاني: أن في مفارقته إياهم تخويفا منه لهم و تهويلا لأن القوم كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا عندما يريد الله أن ينزل بهم العذاب، وذلك مما يدعوهم إلى الانقلاع عما هم فيه، ويدعوهم إلى الفزع إلى الله تعالى.
والثالث: من خوّف آخَرَ بأمر، فيكون فيه دعاؤه إلى الهدى، كان محمودا مصيبا. ولأن مفارقته إياهم هي التي دعتهم إلى الإسلام، فأسلموا، قال: {ومتعناهم إلى حين} [يونس: 98].
ومن كانت مفارقته لهذه الأوجه التي ذكرنا، لم تعد مفارقته زلة، بل عدت من أفضل شمائله، ولكن لحقته اللائمة مع هذا كله لما ذكرنا أن الرسل لا يسعهم أن يفارقوا قومهم، وإن اشتد عليهم الأذى من جهتهم إلا بعد وجود الإذن من الله تعالى، وكانت مفارقته تلك بغير إذن، والله أعلم.
ثم كان في ظنه أن ليست تلك المفارقة زلة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه}؟ [الأنبياء: 87] قيل في التأويل: أن لن نضيق عليه، وقيل: أن لم نعاقبه. فلولا أن عنده أن تلك المفارقة ليست بزلة، وإلا كان لا يظن، فتبين عنده بالتقام الحوت إياه وبما أفضى إليه من الشدائد أن تلك زلة منه. وتذكير الزلة من إحدى النعم. والنعمة الثانية والثالثة: ما ذكرناهما من توفيق الله تعالى إياه بالتوبة وإكرامه عليه بقبولها.
ومن حكمه ألا يقبل التوبة ممن جاءه بأس الله، وأحاط به العذاب، وهو إنما فزع إلى التوبة بعد ما عاين العذاب، وجاءه بأس الله. وجائز أن يكون حكمه هذا في الكفرة، ليس في المؤمنين، لأنه قال في آية أخرى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} [الأنعام: 158] ففيه إشارة إلى أن من سبق منه الإيمان قبل أن تأتيه آيات ربه، أو سبق منه كسب الخير من بعد الإيمان فإن إيمانه في ذلك الوقت ينفعه، وقال في أهل الكفر: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} {فلم يك ينفعهم إيمانهم} [غافر: 84 و85]، فهذا حكمه في أهل الشرك وقوله: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار} [النساء: 18]. وقال في المؤمنين: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17]. فثبت أن ما ذكرنا من الحكم هو حكمه في أهل الكفر ليس في أهل الإيمان.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(وهو مذموم) قال ابن عباس: وهو مليم؛ أي أتى بما يلام عليه، ولكن الله تعالى تداركه برحمة من عنده، فطرح بالعراء وهو غير مذموم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والنعمة: هي الصفح والتوب، والاجتباء: الذي سبق له عنده، والعراء: الأرض الواسعة التي ليس فيها شيء يوارى من بناء ولا نبات ولا غيره من جبل ونحوه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى". ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس، ثم لا يدري كيف يكون انفراجه. أي لولا تدارك رحمة من ربّه.
والتدارك: تفاعل من الدرَك بالتحريك وهو اللحاق، أي أن يلحق بعضُ السائرين بعضاً وهو يقتضي تسابقهم وهو هنا مستعمل في مبالغة إدراك نعمة الله إياه. والنبذ: الطرح والترك.
والمعنى: لنبذهُ الحوت أو البحر بالفضاء الخالي،
والمعنى: أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين كما في سورة الصافات. وأُدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعدَ نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتاً فأخرجه الموج إلى الشاطئ فلكان مُثْلة للناظرين أو حيّاً منبوذاً بالعراء لا يجد إسْعافاً، أو لَنجا بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه. وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذاً خارقاً للعادة. وهذا المعنى طوي طياً بديعاً وأشير إليه إشارة بليغة بجملة {لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم}. وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة وهو مذموم} في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب {لَولا}، فتقدير الكلام: لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء نبذاً ذميماً، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غيرَ مذموم. والذي حملهم على هذا التأويل أن نبذه بالعراء واقع فلا يستقيم أن يكون جواباً للشرط لأن {لولا} تقتضي امتناعاً لوُجودٍ، فلا يكون جوابها واقعاً، فتعين اعتبار تقييد الجواب بجملة الحال، أي انتفى ذمه عند نبذه بالعراء. ويلوح لي في تفصيل النظم وجه آخر وهو أن يكون جواب {لولا} محذوفاً دل عليه قوله {وهو مكظوم} مع ما تفيده صيغة الجملة الاسمية من تمكن الكظم كما علمت آنفاً، فتلك الحالة إذا استمرت لم يحصل نبذه بالعراء، ويكون الشرط ب {لولا} لاحقاً لجملة {إذ نادى وهو مكظوم}، أي لبقي مكظوماً، أي محبوساً في بطن الحوت أبداً، وهو معنى قوله في سورة الصافات (143- 144) {فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}، وتجعل جملة {لَنُبِذ بالعراء وهو مذموم} استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإِجمال الحاصل من موقع {لَولا}. واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز. والمعنى: لقد نبذ بالعراء وهو مذموم. والمذموم: إمّا بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذمَّ في العاجل والعقاب في الآجل، وهو معنى قوله في آية الصافات (142) {فالتقمه الحوت وهو مُليم} وإِمّا بمعنى العيب وهو كونه عارياً جائعاً فيكون في معنى قوله: {فنبذناه بالعراء وهو سقيم} [الصافات: 145] فإن السقم عيب أيضاً. وتنكير {نعمة} للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ} وهو قبول الله له لإيمانه وتسبيحه وإخلاصه، مما جعل مسألة الاستعجال منطلقةً من موقع الإخلاص لله لا من موقع التمرد عليه...