الآية 49 وقوله تعالى : { لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم } نعمة من ربك هي{[21852]} ما وفقه للتوبة والإنابة وما قبل منه توبته ، وكان له ألا يقبلها ؛ إذ هو إنما أتى ربه بالتوبة بعد أن صار إلى تلك المضائق ، وابتلي بالشدائد ، وجاءه بأس الله .
ومن حكمه أنه لا يقبل التوبة بعد نزول العذاب والشدة . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده } إلى قوله : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } ؟ [ غافر : 84و 85 ] فإذا قبل توبته كان فيه عظيم نعمة من الله تعالى عليه .
وقوله تعالى : { لنبذ بالعراء } هو المكان الخالي ، فلو لم يتب إلى الله تعالى لكان يلبث { في بطنه إلى يوم يبعثون } [ الصافات : 144 ]
ثم نبذ بعد ذلك { بالعراء وهو مذموم } لكن الله تعالى تفضل عليه بقبول توبته { فنبذناه بالعراء وهو سقيم } [ الصافات : 145 ] محموم .
فقوله تعالى : { لنبذ بالعراء وهو مذموم } لو عاقبه بالنبذ . ولكن إنما نبذ بالعراء بعد قبول التوبة ، فلم يصر مذموما .
وقوله تعالى : { لولا أن تداركه نعمة من ربه } فنعمته عليه كانت من ثلاثة أوجه :
أحدها : في تذكير الزلة ، وذلك كان بالتقام الحوت إياه ، وكان عنده مفارقته قومه لم تكن زلة ، لأنه إنما فارقهم لأن قومه كانوا{[21853]} له أعداء في الدين ، ففارقهم لينجو منهم ، وليسلم له دينه ، ولا يسمع المكروه في الله تعالى .
والثاني : أن في مفارقته إياهم [ تخويفا منه ]{[21854]} لهم و تهويلا{[21855]} لأن القوم كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا عندما يريد[ الله ]{[21856]} أن ينزل بهم العذاب ، وذلك مما يدعوهم إلى الانقلاع عما هم فيه ، ويدعوهم إلى الفزع إلى الله تعالى .
[ والثالث ]{[21857]} : من خوّف آخر بأمر ، فيكون فيه دعاؤه إلى الهدى ، كان محمودا مصيبا .
ولأن مفارقته إياهم هي التي دعتهم إلى الإسلام ، فأسلموا ، قال{[21858]} : { ومتعناهم إلى حين } [ يونس : 98 ] .
ومن كانت مفارقته لهذه الأوجه التي ذكرنا لم تعد مفارقته زلة ، بل عدت من أفضل شمائله ولكن لحقته اللائمة مع هذا كله لما ذكرنا أن الرسل لا يسمعهم أن يفارقوا قومهم ، وإن اشتد عليهم الأذى من جهتهم إلا بعد وجود الإذن من الله تعالى ، وكانت مفارقته تلك بغير إذن ، والله أعلم .
ثم كان في ظنه أن ليست تلك المفارقة زلة . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فظن أن لن نقدر عليه } ؟ [ الأنبياء : 87 ] قيل في التأويل : أن لن نضيق عليه ، وقيل : أن لم نعاقبه . فلولا أن عنده أن تلك المفارقة ليست بزلة ، وإلا كان لا يظن ، فتبين عنده بالتقام الحوت إياه وبما أفضى إليه من الشدائد أن تلك زلة منه . وتذكير الزلة من إحدى النعم .
والنعمة الثانية والثالثة : ما ذكرناهما من توفيق الله تعالى إياه بالتوبة وإكرامه عليه بقبولها . ومن حكمه ألا يقبل التوبة ممن جاءه بأس الله ، وأحاط به العذاب ، وهو إنما فزع إلى التوبة بعد ما عاين العذاب ، وجاءه بأس الله .
وجائز أن يكون حكمه هذا في الكفرة ، ليس في المؤمنين ، لأنه قال في آية أخرى : { يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } [ الأنعام : 158 ] ففيه إشارة إلى أن من سبق منه الإيمان قبل أن تأتيه آيات ربه ، أو سبق منه كسب الخير من بعد الإيمان فإن إيمانه في ذلك الوقت ينفعه ، وقال في أهل الكفر : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } { فلم يك ينفعهم إيمانهم } [ غافر : 84 و85 ] ، فهذا حكمه في أهل الشرك وقوله : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } [ النساء : 18 ] .
وقال في المؤمنين : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } [ النساء : 17 ] . فثبت أن ما ذكرنا من الحكم هو حكمه في أهل الكفر ليس في أهل الإيمان . والعقل يدل على هذا . وذلك أن المؤمن قد علم أن الذي سبق منه زلة وارتكاب معصية ، فهو ليس يحتاج على إثبات آيات ، فينبّه على أن الذي فعله زلة . فجائز أن تقبل منه التوبة في ذلك الوقت كما تقبل منه [ قبل ]{[21859]} تلك الحالة .
وأما الكافر فعنده أن ما سبق منه لم يكن زلة ومعصية ، فيحتاج إلى آيات تنبهه [ إلى الرجوع ]{[21860]} عن غفلته ، وتذكّره أن الذي فعله معصية ، فأنزل به البأساء والشدة . فذلك يمنعه عن [ النظر ]{[21861]} والتدبر ، فلا يكون إيمانه عن تحقق ويقين ، فلا ينفعه .
[ وأما المؤمن فإنه ]{[21862]} يفزع إلى التوبة والإيمان ليدفع عن نفسه البأساء ، لا ليدوم عليه لو كشف عنه العذاب كما قال : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] فلهذا لا ينفعه إيمانه .
فإن قيل : إن قوم يونس عليه السلام /590-أ/ قد نفعهم إيمانهم ، وهم آمنوا بعدما أيقنوا بالعذاب فجوابه من [ وجوه :
أحدها : ]{[21863]} أنه يجوز أن يكون عذابهم موعودا ، ولم يكن مشاهدا مرئيا .
[ والثاني : ]{[21864]} جائز أن يكون الله علم صدقهم في إيمانهم ، لو مكنوا ، فكشف عنهم العذاب لما كانوا متحققين ، وغيرهم كان يفزع إلى الإيمان ليكشف عنه العذاب ، ثم يعود إلى كفره ؛ فلم يقبل منه .
[ والثالث ]{[21865]} : جائز أن يكون من حكم الله تعالى ألا يقبل من أحد التوبة إذا حل به العذاب ، ولكنه يقبلها من المؤمنين إفضالا وإنعاما ، ولا يتفضل على الكافرين الذي آثروا الدنيا على الدين .
وعلى قول المعتزلة : ليست لله تعالى [ على العبد ]{[21866]} نعمة ، ولا على أحد من أهل الإسلام ، لأن من قولهم :
إن الله تعالى إذا علم من كافر أنه يسلم يوما من الدهر ، وإن كان بعد ألف سنة ، فليس له أن يميته قبل أن يسلم ، وعليه أن يوفقه للتوبة ، وعليه أن يقبل منه التوبة .
فإذا كان هذا كله حقا عليه للعبد لم يكن له موضع نعمة عليه في قبول التوبة ، لأن من قضى حقا عليه ، وأوصله إلى حقه ، لم يعد ذلك منه إنعاما ، فلا يكون لقوله : { لولا أن تداركه نعمة من ربه } معنى ، وقد قال الله تعالى : { يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } [ الحجرات : 17 ] ولو كانت الهداية واجبة عليه لم يكن له عليهم موضع امتنان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.