{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } رقبة يعتقها ، بأن لم يجدها أو [ لم ] يجد ثمنها { ف } عليه { صيام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ } الصيام { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } إما بأن يطعمهم من قوت بلده ما يكفيهم ، كما هو قول كثير من المفسرين ، وإما بأن يطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصف صاع من غيره مما يجزي في الفطرة ، كما هو قول طائفة أخرى .
ذلك الحكم الذي بيناه لكم ، ووضحناه لكم { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وذلك بالتزام هذا الحكم وغيره من الأحكام ، والعمل به ، فإن التزام أحكام الله ، والعمل بها من الإيمان ، [ بل هي المقصودة ] ومما يزيد به الإيمان{[1006]} ويكمل وينمو .
{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } التي تمنع من الوقوع فيها ، فيجب أن لا تتعدى ولا يقصر عنها .
{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وفي هذه الآيات ، عدة أحكام :
منها : لطف الله بعباده واعتناؤه بهم ، حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة ، وأزالها ورفع عنها البلوى ، بل رفع البلوى بحكمه العام لكل من ابتلي بمثل هذه القضية .
ومنها : أن الظهار مختص بتحريم الزوجة ، لأن الله قال { مِنْ نِسَائِهِمْ } فلو حرم أمته ، لم يكن [ ذلك ] ظهارا ، بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب ، تجب فيه كفارة اليمين فقط .
ومنها : أنه لا يصلح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها ، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار ، كما لا يصح طلاقها ، سواء نجز ذلك أو علقه .
ومنها : أن الظهار محرم ، لأن الله سماه منكرا [ من القول ] وزورا .
ومنها : تنبيه الله على وجه الحكم وحكمته ، لأن الله تعالى قال : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } .
ومنها : أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويسميها{[1007]} باسم محارمه ، كقوله { يا أمي } { يا أختي } ونحوه ، لأن ذلك يشبه المحرم .
ومنها : أن الكفارة إنما تجب بالعود لما قال المظاهر ، على اختلاف القولين السابقين لا بمجرد الظهار .
ومنها : أنه يجزئ في كفارة الرقبة ، الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، لإطلاق الآية في ذلك .
ومنها : أنه يجب إخراجها{[1008]} إن كانت عتقا أو صياما قبل المسيس ، كما قيده الله ، بخلاف كفارة الإطعام ، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها .
ومنها : أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس ، أن ذلك أدعى لإخراجها ، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع ، وعلم أنه لا يمكن من ذلك إلا بعد الكفارة ، بادر لإخراجها .
ومنها : أنه لا بد من إطعام ستين مسكينا ، فلو جمع طعام ستين مسكينا ، ودفعها لواحد أو أكثر من ذلك ، دون الستين لم يجز ذلك ، لأن الله قال : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا فَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يحرّرها ، فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر ، فإنه إذا كان الإفطار بالعذر ففيه اختلاف بين أهل العلم ، فقال بعضهم : إذا كان إفطاره لعذر فزال العذر بنى على ما مضى من الصوم .
وقال آخرون : بل يستأنف ، لأن من أفطر بعذر أو غير عذر لم يتابع صوم شهرين . ذكر من قال : إذا أفطر بعذر وزال العذر بنى وكان متابعا :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عديّ وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال في رجلٍ صام من كفارة الظهار ، أو كفارة القتل ، ومرِضَ فأفطر ، أو أفطر من عذر ، قال : عليه أن يقضيَ يوما مكان يوم ، ولا يستقبل صومه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، بمثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في المظاهر الذي عليه صوم شهرين متتابعين ، فصام شهرا ، ثم أفطر ، قال : يتمّ ما بقي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب في رجل صام من كفارة الظهار شهرا أو أكثر ثم مرض ، قال : يعتدّ بما مضى إذا كان له عذر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سالم بن نوح ، قال : حدثنا عمر بن عامر ، عن قتادة ، عن الحسن في الرجل يكون عليه الصوم في قتل أو نذر أو ظهار ، فصام بعضه ثم أفطر ، قال : إن كان معذورا فإنه يقضي .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : إن أفطر من عذر أتمّ ، وإن كان من غير عذر استأنف .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج ، عن عطاء ، قال : من كان عليه صوم شهرين متتابعين فمرض فأفطر ، قال : يقضي ما بقي عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن جُرَيج ، عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار في الرجل يفطر في اليوم الغيم ، يظنّ أن الليل قد دخل عليه في الشهرين المتتابعين أنه لا يزيد على أن يبدّله ، ولا يستأنف شهرين آخرين .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : إن جامع المعتكف وقد بقي عليه أيام من اعتكافه قال : يتمّ ما بقي ، والمظاهر كذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : إذا كان شيئا ابتلي به بنى على صومه ، وإذا كان شيئا هو فعله استأنف ، قال : سفيان : هذا معناه .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر في رجل ظاهر ، فصام شهرين متتابعين إلا يومين ثم مرض ، قال : يتمّ ما بقي .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت إسماعيل عن الشعبيّ بنحوه .
حدثنا أبو كُرَيب ويعقوب قالا : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل ، عن الشعبي في رجل عليه صيام شهرين متتابعين ، فصام فمرض فأفطر ، قال : يقضي ولا يستأنف .
ذكر من قال : يستقبل من أفطر بعذر أو غير عذر :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في رجل عليه صيام شهرين متتابعين فأفطر ، قال : يستأنف ، والمرأة إذا حاضت فأفطرت تقضي .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : إذا مرض فأفطر استأنف ، يعني من كان عليه صوم شهرين متتابعين فمرض فأفطر .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا هشيم ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : يستأنف .
وأولى القولين عندنا بالصواب قول من قال : يبني المفطر بعذر ، ويستقبل المفطر بغير عذر ، لإجماع الجميع على أن المرأة إذا حاضت في صومها الشهرين المتتابعين بعذر ، فمثله ، لأن إفطار الحائض بسبب حيضها بعذر كان من قِبل الله ، فكلّ عذر كان من قبل الله فمثله .
وقوله : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فإطْعام سِتّينَ مِسْكِينا } يقول تعالى ذكره : فمن لم يستطع منهم الصيام فعليه إطعام ستين مسكينا . وقد بيّنا وجه الإطعام في الكفارات فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته .
وقوله : { ذَلكَ لِتُوءْمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ } يقول جلّ ثناؤه : هذا الذي فرضتُ على من ظاهر منكم ما فرضت في حال القدرة على الرقبة ، ثم خففت عنه مع العجز بالصوم ، ومع فقد الاستطاعة على الصوم بالإطعام ، وإنما فعلته كي تقرّ الناس بتوحيد الله ورسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، ويصدّقوا بذلك ، ويعملوا به ، وينتهوا عن قول الزور والكذب { وَتِلْكَ حُدُودُ الله }يقول تعالى ذكره : وهذه الحدود التي حدّها الله لكم ، والفروض التي بينها لكم حدود الله فلا تتعدّوها أيها الناس { وَللْكافِرِينَ }بها ، وهم جاحدو هذه الحدود وغيرها من فرائض الله أن تكون من عند الله { عَذَابٌ ألِيمٌ }يقول : عذاب مؤلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.